إن الحديث عن انتقال تركيا من السياسة الدفاعية إلى الهجومية ليس تحليلاً سياسياً، أو استقراء لمجريات السياسة التركية الجديدة في الأشهر الأخيرة، وبالأخص بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تموز/يوليو الماضي، والذي من الواضح أنه أطلق يد الحكومة التركية أكثر من ذي قبل في كافة المجالات، بما فيها المشاركة في تحالفات دولية جديدة، والدخول في معارك هجومية داخلية وخارجية، والمشاركة في عمليات عسكرية تؤمن الحدود التركية وتدفع الخطر عنها بمساعدة جيرانها وأصدقائها الأوفياء.
لقد تم الإعلان عن هذه السياسة الهجومية على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في معرض تعليقه على التحديات الإقليمية التي تواجه تركيا بالخطر داخلياً وخارجياً، ومنها التفجيرات التي تقع في المدن التركية وفي جنوبها الشرقي، ومنها ما يجري في الخارج ويؤثر على الأمن القومي التركي كما في الموصل في العراق والباب في سوريا، فقال أردوغان في كلمة خلال لقائه بعدد من المخاتير المشاركين من ولايات متفرقة في تركيا يوم الأربعاء 19 تشرين الأول/أكتوبر 2016 في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة: “اعتباراً من الآن، لن ننتظر المشاكل لتدق أبوابنا، ولن نصبر على المخاطر والتهديدات حتى تصل إلينا، إنما سنسير باتجاه المشاكل بأنفسنا، فمثلاً لدينا مشكلة الإرهاب، لن ننتظر التنظيمات الإرهابية لتهاجمنا، إنما سنهاجم المناطق التي تختبئ فيها تلك التنظيمات، وسندمر قواعدهم فوق رؤوسهم، وسنجتث جذور كافة الأطراف الداعمة لها”.
هذه سياسة هجومية جديدة يتحدث عنها الرئيس أردوغان بنفسه، وهو من قاد المرحلة السابقة طول خمس عشرة سنة الماضية من التاريخ التركي المعاصر، ولا بد أن وراء هذا التغيير أسباباً حقيقية، ولعل المثال الذي ذكره أردوغان يحمل أنموذج هذه السياسة التركية الجديدة، وهو أنموذج التعامل مع المنظمات الإرهابية التي لم يذكرها بأسمائها ولكنها معروفة في القاموس السياسي التركي المعاصر، ومنها تنظيم داعش، ومن هو أخطر منها بالنسبة لتركيا وشعبها وأمنها القومي هي الأحزاب الإرهابية وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني الذي يحارب تركيا منذ عام 1985، ويسعى لانفصال جنوب شرق تركيا عنها، بذريعة إقامة كيان كردي فيها، وأصبح يتخذ من الأراضي العراقية والسورية أوكاراً له.
فالعمليات الهجومية المقصودة هي لمنع أي طرف من تهديد الحدود والأمن القومي التركي سواء كانت من دول إقليمية مثل العراق أو إيران أو دولية مثل أمريكا أو روسيا أو غيرها، فالحروب التي تجري في المنطقة وإن كانت خارج الحدود التركية، ولكن هناك من يسعى لجعل نتائجها تهديداً للأمن القومي التركي، وأخطر من ذلك المشاركة في مشاريع عدوانية ضد تركيا، ومحاولة إثارة الفتن والحروب الأهلية فيها، ولهذا السبب فإن الأحزاب التي تشارك في هذه المشاريع المعادية لتركيا لن تفلت من توجيه الضربات إليها وهي في مرحلة الإعداد والتخطيط، سواء كانت في سوريا أو في العراق أو غيرها، لأن قرار السياسة التركية الآن هو استباق ضرب الأخطار قبل وقوعها، فعندما لم تتخذ تركيا إجراءات احتياطية على الحدود الجنوبية مع سوريا أصبحت الحدود السورية الشمالية مراكز تجمع لأحزاب ومنظمات إرهابية تهاجم الأراضي والمدن التركية من داخل سوريا، وتقوم بتهريب الأسلحة للعناصر الإرهابية داخل تركيا أيضاً، وهو ما اضطر الحكومة التركية إلى القيام بعملية هجومية باسم “درع الفرات” في سوريا، وذلك بدعم الجيش السوري الحر في الدفاع عن أراضيه ومدنه وقراه من الاعتداءات العنصرية من المليشيات الكردية التي تقاتل بدعم إيراني وأمريكي في شمال سوريا.
إن الصبر الذي مارسته الحكومة التركية نحو ما يجري من تطورات شمال سوريا في السنتين الماضيتين، وبالأخص بعد ظهور تنظيم داعش واحتلاله الوهمي لبعض المدن السورية الشمالية، كان بسبب الثقة الزائدة التي منحتها تركيا للإدارة الأمريكية، وتبين لاحقاً أنها عملت ضد الأمن القومي التركي، بتمكين المنظمات الإرهابية الكردية من هذه المناطق بحجة محاربة داعش، سواء بقتال حقيقي أو دون قتال، وقد تبين أكثر من مرة أن الأسلحة التي كانت تلقيها الطائرات الأمريكية للأحزاب الكردية كان قسم كبير منها يذهب إلى تنظيم داعش بحجة وقوع أخطاء، ولكنها متكررة، والأخطر من ذلك أن بعض هذه الأسلحة تم تهريبها إلى تركيا واستعملت في العمليات الإرهابية التي وقعت في تركيا في العامين الماضيين، وقتلت مئات الأتراك، ولعل وجود بعض الجنرالات الأتراك التابعين لتنظيم غولن الإرهابي كان له دور في المواقف الضعيفة التي اتخذها الجيش التركي ضد هذه التنظيمات الإرهابية شمال سوريا أيضاً.
أما ما يجري في الموصل فهو يحمل الخطر نفسه ومعه خطر أكبر منه أيضاً، فالخطر الأول هو أن يستغل حزب العمال الكردستاني معركة الموصل لتثبيت وجوده على الحدود الشمالية للعراق وقرب الحدود التركية، وبموافقة من الحكومة العراقية وتشجيع إيراني ومباركة أمريكية وإسرائيلية أوروبية، وبذلك تصبح الحدود التركية العراقية جبهة مشتعلة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بشكل دائم، وفي ظن الحكومة العراقية أنها بذلك تأمن المخاطر التركية التي تتدخل في الشؤون العراقية بحسب زعمها، وذلك السبب الأول، وفي السبب الثاني ربما تظن أنها تنتقم من تركيا بسبب مواقفها السياسية السابقة المؤيدة للعراقيين المظلومين من الحكومات الطائفية، وفي السبب الثالث ربما تظن أنها تنتقم من الاتفاق السابق بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني الذي أخرج المقاتلين بأسلحتهم من تركيا إلى جبال قنديل، أي من حيث أتوا أول مرة، وأما أهداف إيران فهي الضغط على تركيا لقبول تواجدها العسكري في سوريا والخضوع لإرادة إيران وخطتها في سوريا ولبنان واليمن والخليج العربي أيضاً.
لذلك كانت تركيا بحاجة قبل أن تعلن عن تبنيها للسياسة الهجومية أن توثق علاقاتها بالدول التي تشاركها هذه السياسة الجديدة، والتي تعتبر هذه السياسة التركية الجديدة هي سياستها أيضاً، بوصفها دولاً شريكة لتركيا في الأهداف والتحديات الإقليمية، وفي مقدمة هذه الدول المملكة العربية السعودية وقطر، وقد كانت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف إلى تركيا قبل أسبوعين في سياق دراسة هذه السياسة الجديدة، التي تتطلب الفعل قبل رد الفعل، ولعل زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر الجاري تأتي في هذا السياق أيضاً، أي إن الخطة التركية الجديدة هي خطة تركية عربية خليجية تعالج أخطاء السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة، والتي منحت القيادة الإيرانية الطائفية أطماعاً كبيرة في التحرك العسكري في البلاد العربية في العراق منذ عام 2003، وفي سوريا منذ عام 2012، وفي اليمن منذ عام 2014، والخشية أن تمتد الأطماع الإيرانية الأمريكية المشتركة في الامتداد داخل تركيا أو داخل دول الخليج الأخرى، وبالأخص في السعودية والبحرين في المرحلة المقبلة.
إن محاولة أمريكا تهريب داعش من الموصل إلى الصحراء العربية بين العراق وسوريا وشمال السعودية تحمل مخاطر كبيرة، تحتاج إلى الفعل المانع وليس الفعل المدافع فقط، فالأدوات التي تستخدمها أمريكا لتفكيك دول المنطقة العربية والإسلامية ليست حصراً على داعش، ولا المليشيات الطائفية التابعة لإيران، وإنما التنظيمات الكردية التي انخدعت بالخطط الأمريكية ورضيت أن تكون كتائب عسكرية مقاتلة بيد المخطط الأمريكي لغير صالح المنطقة ولا الأمة الإسلامية.
لقد صنعت أمريكا من العراق فرناً حارقاً لكل الشعب العراقي والعربي والمسلم، ولن تعمل أمريكا لإطفاء هذا الفرن حتى يحرق كل العراق ونفطه وشعبه، ولم تات أمريكا بإيران للعراق إلا لأنها تعلم أن المليشيات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني في العراق هو مادة اشتعال دائمة، وكذلك ولنفس الأسباب تدعم الأحزاب الكردية الإرهابية، والمواقف الأمريكية والإيرانية من تنظيم داعش واضحة وأصبحت مكشوفة، فهي مادة اشتعال باسم الطرف الآخر “السني” ظلماً وزوراً، ولذلك وحيث أن أمريكا لا ولن تعمل لإطفاء الفرن ولا إغلاقه، فإن على الدول التي يتم توجه لهيب الفرن إليها أن تعمل على إطفاء الفرن الطائفي والعنصري في أرضه، وقبل أن يدخل أراضيها، ولذلك كان لا بد أن تأخذ تركيا مع حلفائها من الدول العربية الخليجية بسياسة الهجوم قبل أن يصل الاشتعال إلى أراضيها، سواء بقصف مواقع داعش في العراق كما فعلت تركيا يوم 23 تشرين الأول/ أكتوبر، أو بمهاجمة مواقع حزب العمال الكردستاني إذا اقتربت من الحدود التركي، أو بإعادة سيطرة الجيش السوري الحر على مدينة الباب ومنبج وغيرها، وكذلك ينبغي اتباع السياسة الهجومية إذا أقدمت مليشيات طائفية من الحشد الشعبي الطائفي على مهاجمة الموصل وانتهاك أرواح المواطنين العراقيين من أهل الموصل.
- الخليج أونلاين
عذراً التعليقات مغلقة