- علي سفر
تصدم جائزة نوبل للآداب التي ذهبت البارحة إلى المغني والشاعر الأميركي بوب ديلان، عقول الكثيرين من المعاصرين الذين ظلوا على اعتقادهم بأن الفوز بها هو من اختصاص النخبة، أو بالأحرى أولئك الذين تتداول النخب حول العالم أسماءهم، فتجعلهم على قائمة أعلى نسب المبيعات، أو الأقوى حضورا في الميديا.
شيء ما تغير يوم الأمس، فقد أظهر الأمر انحيازا ملفتا نحو السياق الشعبي، الأكثر قربا من المتداول بين عموم الناس، ولنتذكر هنا أن منح الجائزة للمسرحي الإيطالي العمالي داريو فو قد قوبل باستنكار الكثيرين عام 1997، ما أوضح قوة الاعتقاد العام بأن نوبل للآداب هي جائزة للمكرس والتقليدي، لا بمعنى تحميل المانحين مزاجا كلاسيكيا بقدر جعل اختياراتهم استجابة للسائد العام.
الذهاب صوب خيار بوب ديلان يخلق لدى هذه الجبهة العريضة خللا في طبيعة قراءتها، وربما يمكن اعتبار الأمر نوعا من التحول ينسجم بشكل كامل مع تغيرات كبيرة تشهدها الثقافة على مستوى العالم، ظلت أسوار الدفاع عن جائزة نوبل تحاول منعها من اختراق حصونها. إذ أن ديلان الذي يعتبر مغنيا شعبيا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يكن مدرجا على الإطلاق ضمن قائمة التوقعات ومكاتب المراهنات!
وفي الوقت نفسه، يحتاج أولئك الذين راهنوا على أسماء أخرى إلى مراجعة شاملة لطريقة تفكيرهم التقليدية، التي تبدو انتقائية وغير عادلة في نظرتها للإرث الثقافي لشعوب العالم، فديلان الذي تمّ تأطيره ضمن “الشعبي” يمكن اعتباره نخبويا من جهة تراكم المؤثرات التي شكلت تجربته الممتدة على نصف قرن تقريبا، فقد عايش تجربة شعراء “البيت” في خمسينات القرن الماضي، وشهد تحولات اللغة الشعرية الخاصة بالأجيال اللاحقة، وقد تطورت تجربته في مختبرات تماست مع التلقي الشعبي، ولا سيما ظهور أنماط غنائية كانت تقترب أكثر فأكثر من قضايا الناس اليومية، والتي كانت تتحول أيضا لتصبح جزءا من آليات الرفض السياسي، فقد شهدت تجربته في الستينات تحوله من أغاني الفولك إلى الروك، مع المحافظة على رونق خاص تعززه تجربة مهمة في كتابة الأغنيات تجعله يقف على مسافة من أقرانه.
حضور بوب ديلان بين الجمهور، لم يتأثر بقدم تجربته، فأغانيه لم تتحول إلى موضة تتجاوزها الموضات الأحدث، بل إنها كانت وعبر ما احتوته من نبضات ماحكت اللغة السائدة وذهبت نحو تجاوزها، تؤكد أن العمق الشعري يجعل النتاج الموسيقي أشد رسوخا وثباتا ضمن تحولات الزمن.
كسرت تجربة ديلان التلقي الكلاسيكي قبل حصوله على الجائزة الأشهر في العالم، إذ أن مسرحا تقليديا كالكوميدي فرانسيز جعل في السنة الماضية تجربة تسجيل أغنيته «لايك إي رولينغ ستون» عرضا مسرحيا جرى تقديمه على خشبته، في خطوة اعتبرها البعض تحولا ملفتا في توجهات هذه المؤسسة التقليدية.
وهنا أيضا نتذكر أن حياة بوب ديلان كانت مادة مثيرة لواحد من أهم الأفلام الوثائقية التي أنجزها مارتن سكورسيزي، في العام 2005 وحمل عنوان “لا اتجاه إلى البيت” ما لبث أن حاز على جائزة إيمي الشهيرة.
- صحيفة العرب
Sorry Comments are closed