

يُقدَّم شعار “فصل السياسة عن الرياضة” في الخطاب العام بوصفه مبدأً تنظيمياً يهدف إلى حماية المنافسة الرياضية من التوظيف السياسي، غير أن هذا الشعار، في السياق السوري، لم يعمل يوماً قاعدة حيادية، بل أداة انتقائية خاضعة لموازين القوة السائدة، فالرياضة بوصفها ممارسة اجتماعية جماهيرية، لا يمكن عزلها عن البنية السياسية التي تُنتجها وتُدير مؤسساتها، ولا عن السياق التاريخي الذي تتشكل فيه دلالاتها.
وفي الحالة السورية، كانت الرياضة جزءاً من المجال العام المُسيطر عليه، ولم تكن خارج منطق السلطة، بل إحدى أدواتها القمعية.
خلال عقود حكم النظام البائد، لم تُعامل السياسة بوصفها عنصراً طارئاً على الرياضة، بل حُقنت في جميع مفاصلها سُمح للموالين النظام البائد بالظهور في جميع المحافل الرياضية بغض النظر عن الأحقية الرياضية، في حين جرى تحيد أي شخص لا يقدم فروض الطاعة العمياء للسلطة أو معارض.
هذا التمييز لم يكن قانونياً بل إجراءً سياسياً، حيث استُخدمت اللوائح الرياضية كوسيلة ضبط اجتماعي، لا كإطار تنظيمي محايد. من هنا، فإن الادعاء بوجود فصل فعلي بين الرياضة والسياسة في سوريا هو ادعاء يتناقض مع الوقائع، ويغفل الطبيعة السلطوية لإدارة المجال الرياضي.
انطلاقاً من هذا الوعي، لم ينظر جمهور الثورة إلى الرياضة باعتبارها فضاءً منفصلاً عن الصراع السياسي والاجتماعي، بل تعامل معها كامتداد له، فالجماهير التي اختبرت القتل والتهجير وتدمير المدن، لا يمكن أن تتبنى مفهوماً مجرداً للحياد حين يكون هذا الحياد مُصمَّمًاً لتجاهل الجريمة وحماية من ارتكبها أو بررها. في هذا الإطار، تصبح الذاكرة عنصراً مركزياً في فهم السلوك الجماهيري، إذ لا تُمحى المواقف السياسية بسقوط الأنظمة، ولا تُعاد صياغة الشرعية الاجتماعية بمجرد تغيير موازين القوى.
وتكتسب حادثة لاعب نادي الوحدة، ميلاد حمد، دلالتها من هذا السياق تحديداً. فالمنشور الذي كتبه على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي تضمّن تحريضاً مباشراً على تدمير مدينة إدلب ودعماً صريحاً للنظام البائد، ولا يمكن فصله عن موقعه بوصفه فاعلاً عاماً، ولا عن أثر هذا الخطاب في مجتمع لا تزال جراحه مفتوحة. هذا الفعل لا يندرج في إطار “حرية رأي” مجردة، بل في سياق خطاب سياسي تحريضي له امتدادات رمزية وأخلاقية، ويستدعي مساءلة تتجاوز لحظة النشر ذاتها.
حين دخل اللاعب أرض ملعب يحمل اسمه ( ستاد عبدالباسط ساروت) دلالة ثورية واضحة، في مباراة جمعت نادي الوحدة ونادي الكرامة، لم يكن حضوره حدثاً رياضياً صرفاً، بل فعلاً محمّلاً بدلالات سياسية واجتماعية. ردّة فعل الجماهير، التي عبّرت عن رفضها عبر الهتافات واللافتات، لا يمكن اختزالها في مفهوم الشتم أو الانفلات الجماهيري، بل يجب قراءتها بوصفها تعبيراً عن ذاكرة جمعية وعن تصور أخلاقي للعدالة. إن تجاهل هذا البعد، وتحويل الحدث إلى مخالفة تنظيمية معزولة، يُفرغ التحليل من مضمونه الاجتماعي.
قرار الاتحاد السوري لكرة القدم بفرض غرامة مالية على نادي الكرامة يعكس هذا القصور التحليلي. فالقرار يستند إلى نص قانوني صحيح شكلياً، لكنه يتجاهل السياق الذي أُنتج فيه الفعل الجماهيري، ويتغاضى عن الفعل التحريضي السابق الذي شكّل سببه المباشر. هنا يظهر التناقض بين القانون بوصفه أداة تنظيمية، والعدالة بوصفها مفهوماً اجتماعياً وسياسياً أشمل. تطبيق القانون دون مساءلة الفعل التحريضي يعيد إنتاج نمط قديم من إدارة الخلاف، حيث يُعاقَب رد الفعل ويُترك السبب دون معالجة.
في المجتمعات الخارجة من أنظمة قمعية، لا يكون القانون كافياً بذاته لإنتاج شرعية جديدة، ما لم يُعاد تعريفه ضمن إطار العدالة الانتقالية والاعتراف بالذاكرة الجمعية، فالحياد، في سياق غير متكافئ، يتحول إلى موقف سياسي بحد ذاته، وغالباً ما يكون انحيازاً غير معلن إلى الطرف الأقوى رمزياً. من هنا، فإن الإصرار على شعار “فصل الرياضة عن السياسة” دون تفكيك شروطه التاريخية والاجتماعية، لا يخدم الاستقرار بقدر ما يعمّق الإحساس بالظلم.
إن الرياضة في سوريا، بوصفها جزءاً من المجال العام، لا يمكن أن تُدار بمنطق تقني صرف. فهي مساحة للصراع الرمزي، ولإعادة تعريف الشرعية، وللتفاوض حول الذاكرة والمعنى. وأي محاولة لفرض حياد شكلي على هذا الفضاء، دون مساءلة الماضي أو الاعتراف بضحاياه، ستظل موضع رفض مجتمعي. فالقانون، حين ينفصل عن العدالة، يفقد قدرته على الإقناع، والرياضة، حين تُستخدم لتجاوز التاريخ بدل مواجهته، تتحول من مساحة تنافس إلى أداة إقصاء رمزي. في هذا المعنى، لا تمثل الملاعب في سوريا مستقبلاً منفصلاً عن السياسة، بل ساحة أخرى من ساحات إعادة بناء المعنى والعدالة في مجتمع لم يغلق بعد صفحة تاريخه القريب.





