

بعد انهيار نظام حكم اعتمد لعقود على العنف المنهجي والطائفية الوظيفية، واجهت الدولة السورية الناشئة سؤالاً تأسيسياً لا يقل خطورة عن إسقاط النظام نفسه: كيف تُبنى دولة بعد هذا الحجم من الجرائم دون الانزلاق إلى حرب أهلية أو فتح باب انتقام جماعي يعيد إنتاج الفوضى؟
في تلك اللحظة، بدا خيار «فتح لا انتقام» مساراً سياسياً اضطرارياً، هدفه احتواء الانقسام المجتمعي، ومنع الانفجار الأهلي، وكسب هامش زمني لإعادة بناء مؤسسات الدولة في ظل رقابة دولية مشددة على الأداء الحكومي للدولة الجديدة.
في سياقه التاريخي، لم يكن هذا الخيار خطأً استراتيجياً ولا تنازلاً أخلاقياً، بل ضرورة انتقالية فرضتها موازين القوى الداخلية وحساسية البيئة الدولية. فالحسم الأمني المبكر كان سيُفسَّر خارجياً على أنَّ الثورة السورية استبدلت نظاماً مجرماً أقلوياً بنظام مجرم آخر، ما يمنح الأطراف الإقليمية والدولية ذرائع للتدخل العسكري المباشر، ويهدد بتفجير مجتمع لم يتعافَ بعد من آثار الصراع.
غير أنَّ الإشكال البنيوي لم يكمن في اعتماد مسار المصالحة، بل في تحوّله من سياسة انتقالية محددة الأهداف إلى نهج مفتوح بلا سقف زمني أو معايير سيادية واضحة. عند هذه النقطة، فقدت المصالحة وظيفتها كأداة إدارة انتقال، وبدأت تُقرأ من قبل الفاعلين المحليين كعلامة ضعف قابلة للاختبار.
هذا التحوّل لم يمر دون استثمار، فلول النظام البائد تعاملوا مع ضبط النفس بوصفه فرصة لإعادة التموضع، لنسج تحالفات أقلوية مع قوى الأمر الواقع، وفي مقدمتها «قسد»، قرأتُ التردّد المركزي كقابلية للضغط السياسي على الحكومة المركزية في دمشق من خلال خلق شرعيات موازية لشرعية الدولة، فيما جرى توظيف حركات مطلبية محقة وتحويلها إلى أدوات تفاوض قسري.
من أحداث الساحل إلى السويداء، وصولاً إلى تصاعد خطاب الفدرالية واللامركزية المفروضة بالأمر الواقع، بات واضحاً أن بعض الأطراف لا تفاوض الدولة ضمن منطق العقد الوطني، بل تبتزها عبر المنصات الدولية.
المعادلة التي تشكّلت كانت واضحة: دولة مقيّدة في استخدام أدوات القوة السيادية تعني مساحة تصعيد مفتوحة بلا كلفة سياسية حقيقية.
في هذا السياق، تحوّل «المنظار الدولي» من عنصر حماية مرحلية إلى أداة تعطيل، وأي إجراء حازم صار يُقدَّم كقمع، وأي ضبط أمني كخرق لحقوق الإنسان، وأي محاولة لفرض السيادة كتهديد للأقليات. إلا أن التجارب المقارنة تشير إلى حقيقة ثابتة في العلاقات الدولية: المجتمع الدولي لا يتعامل بجدية مع الدول التي تكتفي بالخطاب، بل مع تلك القادرة على فرض القانون ضمن أطر مؤسسية واضحة.
من هنا، يمكن القول: إنَّ الخلل الحقيقي لم يكن في خيار المصالحة، بل في غياب إعلان صريح لخطوط حمراء غير قابلة للتفاوض، وفي التأخر في الانتقال من مرحلة التهدئة السياسية إلى مرحلة تثبيت السيادة القانونية. الدولة قدّمت شروحات مطوّلة، لكنها أخّرت القرارات الحاسمة، وملأت الفراغ بالخطاب بدل الفعل، ما أتاح للخصوم ملء المشهد بسردياتهم وشروطهم.
المرحلة المقبلة لا تحتمل إعادة إنتاج الشعارات، بل تتطلب مقاربة مختلفة: نقل الصراع من الشارع إلى المؤسسات القضائية، تأطير استخدام القوة ضمن نصوص قانونية معلنة، التفريق الصارم بين الاحتجاج المشروع والتخريب السياسي، مع تأكيد غير قابل للتأويل أن وحدة الدولة، والسلاح، والسيادة ليست موضوعات تفاوض تحت أي ظرف. أما النقاشات الدستورية واللامركزية، فهي استحقاقات سياسية تُناقش لاحقاً في بيئة سيادية مستقرة، لا كتنازلات مفروضة.
الخلاصة: إنَّ مسار «فتح لا انتقام» كان شرطاً لازماً لولادة الدولة، لكنه تحوّل، دون تعديل وظيفي، إلى نقطة اختبار خطيرة لهيبتها. فالدولة، في التحليل النهائي، لا تُقاس بنواياها بل بقدرتها على الجمع بين العدالة والصرامة، وبين الحزم ومنع عودة الاستبداد. وإذا لم يُدار هذا الانتقال بدقة، فإن الخطر الأكبر لن يكون في الضغوط الخارجية، بل في التآكل الداخلي التدريجي لمفهوم الدولة نفسها.




