“نزع السياق”.. حين تُروى الحقيقة بنصف لسان

مالك داغستاني23 أكتوبر 2025آخر تحديث :
“نزع السياق”.. حين تُروى الحقيقة بنصف لسان
مالك داغستاني

في سوريا، ثمّة أعداد لا بأس بها ممن ما يزال ممكناً وصفهم بأنهم “ناشطون وطنيون”، في حين بدا آخرون وكأنهم قد تحولوا إلى “ناشطي الطائفة”.

نموذج النمط الثاني لا ينحصر في طرف واحد. بل يمكن اعتبار المصطلح، وليس أصحابه، عابراً للطوائف. الفارق بين النموذجين لا يكمن في حجم الانخراط بالشأن العام، لكن في مدى حساسيتهم لمعيار الأخلاق والضمير الشخصي.

الخلاف هنا في البوصلة التي تحدد إنْ كان صاحبها قادراً على أن يرى الألم البشريّ بمعزل عن الهوية، أم أنه سيكتفي بدمعة أمه، مستنداً إلى المثل الشعبي الشهير “ألف عين تبكي، ولا تدمع عين أمي”، وهو مثل بليغ، يعكس، وإن بشكل غير مقصود، مبدأ اللامبالاة الأخلاقية تجاه معاناة الآخرين. بل، في الكثير من الحالات، وجدنا أن هناك من تجاوزه، خلال العقد الماضي وحتى اليوم، ففرح لبكاء أمهات الآخرين. وهذه، حين نتحدث من منطلقٍ وطني، كارثة مكتملة الأركان.

المشكلة لا تتوقف عند الموقف الانفعالي من الحدث، بل في الطريقة التي تُروى بها الحكايات، وكيف تُنتزع من سياقها، وتُعاد صياغتها لخدمة غايات إما تبريرية، أو إلغائية، أو ببساطة لتسطيح المأساة وتحويلها إلى أداة صراع، لا لتكون دعوة لفهم ما حدث ويحدث فعلاً. والنتيجة؟ إنكار البعض لجرائم تحدث اليوم، ومن الطرف الآخر التعمية على أهم إبادات التاريخ المعاصر وأكثرها إجراماً ووحشية وهمجية. تلك الإبادة الممنهجة عبر البراميل، والسلاح الكيماوي والمجازر المتنقلة والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب. هذه، الأخيرة، تُروى اليوم، لدى البعض، كأنها حدث جانبي من الماضي. وأن ما يحدث الآن، ليس في السياق التاريخي ذاته، وإنما حدث انبثق بذاته بسبب طبيعة الحكام الجدد وخلفيتهم الأيديولوجية والطائفية.

لقد بات من الشائع سماع من يتحدث عن الانتهاكات الجارية اليوم وكأنها تساوي، أو حتى تفوق، ما ارتُكب سابقًا. فتُطرح عبارات مثل: “لم يتغيّر شيء”، بل والبعض يترحم على “أيام زمان”، وكأن السلاح الكيماوي ما زال يُستخدم، وكأن البراميل ما تزال تُلقى على المدن، وكأن المعتقلات السياسية تضج بعشرات آلاف السجناء الأبرياء، والمشانق ما زالت تعمل على قدمٍ وساق في “مسلخ صيدنايا”. هذا النوع من الخطاب، مهما حسنت نواياه، يخفي في طياته نزوعاً إجرامياً للتسوية الأخلاقية بين القاتل والضحية.

نزع السياق لتبرير الحاضر أو غسل الماضي الدموي، ليست خصيصة سورية فقط. في البوسنة والهرسك، حاول بعض القوميين الصرب نفي مجزرة سربرنيتسا التي قُتل فيها أكثر من 8000 مسلم في أيام معدودة عام 1995، من خلال التركيز على جرائم الحرب التي ارتكبها بعض المقاتلين البوسنيين.

ولعل الأخطر من كل ذلك هو استسهال اجتزاء الحدث، ونقل المعلومة دون سياق، أو حتى الموقف ممن لا ندري هويته الحقيقية. فأن تُنقل بخفّةٍ وانعدام مسؤولية، عبارةٌ طائفية مقززة كتبها مجهول “نَكِرة”، فيجري تعميمها على جماعة بأكملها، لا يختلف كثيراً عن استراتيجية أنظمة الاستبداد في نزع الفرد من فردانيته، وتحميله وزر الجماعة. للأسف يفعل ذلك أناسٌ يفترض أنهم على سويّة من الوعي، حتى ليبدو أحياناً أنهم مولجون بمهمة إذكاء التناحر المجتمعي، وليس مجرد معاداة السلطات القائمة. هنا يكمن التشابه العميق بين الطغيان

السياسي والطغيان الطائفي، إذ كلاهما يحتاج إلى جماعة يُشيطنها باستخدام “الضمير الانتقائي”.

الحكاية الصحيحة والحقيقية تبدأ بالسياق. والسياق في سوريا هو أن نظاماً إجرامياً حَكم البلاد بالقوة والقتل والتجويع والخوف لعشرات السنولت. سقط هذا النظام، وتبدّلت أوجه السلطة، لكن البلد لم تنتقل إلى أيدٍ قادرة على تحقيق حلم السوريين كما تداولوه عام 2011، الذي نكتشف اليوم أنه كان حلماً ممنوعاً دولياً وإقليمياً. وصلت إلى الحكم وتولّت إدارة ما تبقى من سوريا جماعات لها خلفيات أيديولوجية ودينية تُثير مخاوف شريحة واسعة من السوريين. خوفٌ مشروع من إعادة إنتاج القهر والتمييز بأشكال جديدة.

نعم، هناك مجازر وجرائم وحشية ارتُكبت لاحقًا، مثل ما حدث في الساحل أو في السويداء، على يد موالين للسلطة أو حتى منتمين إلى أجهزتها. لكن الإشارة إلى التاريخ الإجرامي لنظام الأسد وما ارتكبه بحق السوريين، وكيف أن الحكاية مترابطة، لا يأتي هنا تبريراً لما جرى لاحقاً، ولا رضى عما زال يجري حتى اليوم، لكنها إشارة طبيعية تضع الحدث في مساره المنطقي، وتُجنّبنا الوقوع في فخ السردية الانتقائية. فوضع الحدث في السياق ليس ترفاً أكاديمياً، لكنه الشرط الأساسي للقراءة العادلة. كي لا نقع مجدداً في مطب وضع ما ارتُكب ضمن سياق مُوَجّه، من جماعة برمتها ضد جماعة محددة. علويون يقتلون السنّة، أو سنّة يقتلون العلويين.

هذه الظاهرة، نزع السياق لتبرير الحاضر أو غسل الماضي الدموي، ليست خصيصة سورية فقط. في البوسنة والهرسك، حاول بعض القوميين الصرب نفي مجزرة سربرنيتسا التي قُتل فيها أكثر من 8000 مسلم في أيام معدودة عام 1995، من خلال التركيز على جرائم الحرب التي ارتكبها بعض المقاتلين البوسنيين. ورغم وجود انتهاكات حقيقية من الجانبين، إلا أن محكمة لاهاي رفضت، فيما يظهره لنا منطوق أحكامها، هذه الموازنة الزائفة، وأكّدت أن ما جرى في سربرنيتسا هو إبادة جماعية . فالعدالة تبدأ حين نضع كل حدث في موقعه، لا حين نساوي بين الجاني والمجني عليه.

ما يجب أن نفهمه اليوم هو أن الاعتراف بالسياق لا يعني تبنّي السردية الرسمية، ولا ينطوي على تبرير الجرائم الراهنة. بل يعني أن نمتلك أدوات الفهم، وأن ننأى بأنفسنا عن الاستقطاب الذي حوّل الدم إلى رأسمال سياسي، غالباً بنزوعٍ طائفي. وأن ندرك أن قسوة التجربة لا تُبرر قسوة القراءة وانحيازها، وأن مسؤوليتنا، ناشطين ومواطنين، أن نكون حسّاسين تجاه الجميع، لا فقط تجاه دمعتنا الشخصية. فليس مقبولاً أن نُذيب الفروق ونطمس الحدود. علينا أن نُدرك أن العدالة لا تتحقق إلا إذا بقي الضمير متيقظاً، لا (مفلتراً) على أساس الهوية.

بحسب مُنظّري السرد السياسي، فإن السرد التاريخي ليس حيادياً، بل يتشكل بفعل الاصطفافات والمصالح. وبالتالي، فإن إعادة بناء الوقائع خارج سياقها يُؤدي إلى ما يُعرف بالزمنية الزائفة “false temporality”. حيث تبدو الأحداث وكأنها تتساوى في القيمة والدلالة والسببية، وهو ما يُنتج المساواة المخادعة. هذه التقنية تُستخدم، عن قصد أو غير قصد، لإرباك الضمير الجمعي، ونقل مركز الألم من الجريمة الأصلية إلى توابعها، بحيث تبدو الجريمة وكأنها مبرأة من ردّ الفعل الناتج عنها.

الحكاية السورية لن تُروى بعدلٍ ما لم نُصِرّ على استعادة السياق، والامتناع عن اقتطاع الجُمل والدموع والصرخات من معناها الشامل.

أما على المستوى السياسي، فإن تجاهل السياق يؤدي إلى إضعاف إمكانيات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، لأن الأخيرة تقوم جوهرياً على الاعتراف، لا على التسويات الشكلية والزائفة. في كل تجارب العدالة الانتقالية تقريباً، كان الاعتراف بالجريمة الأصلية ومسؤولية الدولة أو الأطراف المسلحة شرطاً أساسياً للعبور نحو السلام. أما في الحالة السورية، فإن السرديات المتناحرة، التي تُنتَج عبر اجتزاء الحكايات، لا تعيق فقط فهم الحقيقة، بل تعيد إنتاج منظومات الإلغاء نفسها التي أسست للاستبداد. وهذا ما يجعل من نزع السياق، في الحالة السورية، أداة سياسية لا أخلاقية، تُستخدم لإعادة قولبة السرد الوطني، بما يخدم تبرئة النظام السابق بأثر رجعي.

في الختام، “نزع السياق” أو “تزوير المقارنة” يضعف إمكانية قراءة عادلة لما جرى، ويُسهِّل التلاعب بالسرد. الحكاية السورية لن تُروى بعدلٍ ما لم نُصِرّ على استعادة السياق، والامتناع عن اقتطاع الجُمل والدموع والصرخات من معناها الشامل. لأن نصف الحقيقة، في هذه الحالة، قد يكون أخطر من التزوير التام. لأن الحقيقة إنما تروى بلسان كامل لا بنصف لسان.

المصدر تلفزيون سوريا

اترك رد

عاجل