

تشكّل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، والوفد المرافق له، موسكو خطوةً مهمة في اتجاه إعادة ترتيب علاقات سورية الجديدة مع دول فاعلة في العالم، مثل روسيا، وذلك بعد أن أعادت تقييم الاتفاقات السابقة معها، ووضعتها محلّ مراجعة وفق معيار الموازنة بين السيادة والمصالح. وتكتسي أهميتها، ليس من أنها الأولى من نوعها بعد سقوط نظام الأسد (8 ديسمبر/ كانون الأول 2024) وحسب، بل أيضاً لأنها تعيد رسم العلاقات السورية الروسية وفق محدّدات وأسس جديدة مبنية على البراغماتية السياسية، تأخذ في الاعتبار التوازن بين المصالح والواقعين الجيوسياسيين، الإقليمي والدولي، وتجد مسوّغاتها في ما تفرضه ضرورات الواقع السوري والظروف الإقليمية والدولية، وما تمّثله روسيا على المستوى الدولي، على الرغم من أنها كانت أحد أكبر داعمي نظام الأسد وارتكبت مجازرَ بحقّ السوريين خلال تدخّلها العسكري المباشر دفاعاً عن نظام الأسد البائد.
استبق الشرع الزيارة في تصريحات أكدت أن استقرار سورية فرصة تاريخية للمنطقة والعالم، وأن الدخول في صراع مع روسيا “سيكون مكلفاً ولا يخدم مصلحة سورية”، ولا يتماشى مع السياسة الخارجية السورية الجديدة، القائمة على الواقعية والتوازن لا على المواجهة. ولذلك قال الشرع أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “سورية الجديدة تسعى إلى إعادة ربط العلاقات السياسية والاستراتيجية مع مختلف الدول، وفي مقدمها روسيا الاتحادية، لما لها من روابط تاريخية ومصالح مشتركة”، وهو ما جعل العلاقات التاريخية بين البلدَين ركيزةً أساسية في المباحثات، والجهد الذي تبذله القيادة السورية من أجل توظيف هذا الإرث لبناء شراكة مستقبلية تحترم إرادة الشعب السوري. ولم ينسَ الشرع طمأنة الرئيس الروسي بأن “سورية تحترم كل ما مضى من اتفاقيات مع موسكو”. أمّا بوتين، فأكّد أن “علاقات روسيا مع سورية كانت دائماً تسترشد بمصالح الشعب السوري، لا بالمصالح السياسية أو الظروف الخاصة بموسكو”.
جاءت الزيارة في سياقات دبلوماسية هادئة عنوانها الانفتاح على الحوار، حسبما أظهر ذلك مسؤولون روس وسوريون عديدون في تصريحاتهم ولقاءاتهم، ولذلك تعتبر الزيارة تتويجاً لمسار بدأ منذ سقوط نظام الأسد، وشهد اتصالات القيادة الروسية ومحادثاتها مع الإدارة السورية الجديدة عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية، فزار نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، دمشق في يناير/ كانون الثاني 2025. ثمّ توّجت الاتصالات الروسية مع الإدارة الجديدة بمكالمة الرئيس الروسي الهاتفية مع الشرع (12 فبراير/ شباط 2025) التي أكّد فيها عزمه تقديم المساعدة لسورية من أجل تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سورية، واستعداده لإعادة النظر في الاتفاقيات التي أبرمتها روسيا مع نظام الأسد البائد. ثمّ زار موسكو وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (31 يوليو/ تموز 2025).
شكّل اللقاء بين الرئيس أحمد الشرع ونظيره الروسي بوتين حجر الزاوية في هذه الزيارة، بالنظر إلى أن كلّاً منهما أوضح تصوّره لمستقبل العلاقات الثنائية، فأوضح الشرع محدّدات النهج السوري الجديد القائم على الندّية والاحترام الكامل للسيادة، والساعي إلى إعادة تنظيم العلاقة لتصبّ بشكل واضح ومباشر في مصلحة سورية والسوريين، وتلبية تطلّعاتهم، بعد أن عاشوا سنوات طويلة من الحروب، وعانوا من الاستبداد والقهر، إضافة إلى العزلة الدولية التي عانتها سورية نتيجة سياسات المحاور والتبعية التي انتهجها نظام الأسد.
ترغب الإدارة الجديدة في تحديث المنظومات الدفاعية السورية، وإعادة دمج الضباط السوريين في منظومة التدريب الروسية
ملفّات عديدة طُرحت خلال لقاء الرئيسين، أهمها إعادة صياغة الوجود العسكري الروسي في قاعدتي طرطوس وحميميم السوريَّتَين، إذ تسعى الإدارة السورية إلى إعادة تعريف طبيعة الوجود العسكري الروسي وحجمه في أراضيها ليكون متوافقاً مع السيادة الوطنية والمصلحة السورية العليا، وضمن إطار قانوني جديد يضمن السيادة السورية. أمّا روسيا، فلا تريد أن تظهر أنها خسرت سورية، لذلك يتمحور سعيها حول المحافظة على وجودها العسكري في سورية، وإن كان ليس بالحجم والشكل السابقَين، وبأقلّ تكلفة ممكنة. وترى في محافظتها على وجودها العسكري فرصةً جيّدةً لإعادة تأكيد حضورها قوةً ضامنةً إقليميةً، من دون انخراط مباشر، مثلما كان الأمر في الفترة السابقة.
تفيد تقديرات بأن الحديث بشأن مستقبل القواعد الروسية يركّز في اقتراحات بإعادة توجيه دورها لخدمة أهداف إنسانية، تسهم في عودة الاستقرار وإعادة الحياة الطبيعية للسوريين. وباعتبارها دولةً دائمةَ العضوية في مجلس الأمن، تنتظر دمشق أن تلعب موسكو دوراً محورياً في رفع العقوبات الأممية المقروضة عليها، إلى جانب الاستفادة من دورها في المحافل الدولية سيّما مجلس الأمن، للدفاع عن مبدأ وحدة الأراضي السورية وسيادتها الكاملة.
على المستوى الاقتصادي، يمكن لروسيا أن تلعب دوراً محدوداً في مرحلة إعادة الأعمار في سورية، لأن الشركات الروسية الكبرى، من غازبروم إلى روسنفت، تتحضّر للاستفادة من هذه المرحلة والحصول على عقود وامتيازات في حقول الغاز والمرافئ والطاقة. إضافة إلى أن روسيا تصدّر إلى سورية كمّيات مهمّة من القمح، فتتحدّث تقارير عن إمكانية إنشاء صندوق مشترك لتأمين الوقود والقمح والأدوية تحت رقابة مالية روسية سورية مشتركة. وعلى المستويين، العسكري والأمني، طرح الشرع على نظيره بوتين فكرة إعادة نشر الشرطة الروسية في الجنوب السوري، واستعادة الدوريات الروسية، وذلك بغية منع أيّ خروق عسكرية إسرائيلية، وكبح الاستهداف الإسرائيلي للسيادة السورية. كما أن الإدارة الجديدة ترغب في تحديث المنظومات الدفاعية السورية، وإعادة دمج الضباط السوريين في منظومة التدريب الروسية.
لا يمكن تجاهل ملفّ تسليم المجرم بشّار الأسد، بوصفه أبرز الملفّات حساسيًة في العلاقات السورية الروسية
لا يمكن تجاهل ملفّ تسليم المجرم بشّار الأسد، بوصفه أبرز الملفّات حساسيًة في العلاقات السورية الروسية، خصوصاً أن الإدارة الجديدة سبق أن طلبت من موسكو تسليمه بغية محاكمته. لكن يبدو أن الكرملين ليس في وارد تسليمه، فهو ينظر إلى الأمر بحذر، مع أنه يدرك تماماً رمزية الخطوة للسوريين، لكنّه يرى في بقاء الأسد تحت قبضة موسكو ورقة تفاوضية تصلح للمساومة، ليس مع السوريين، بل مع دول الغرب أيضاً، وربّما تجد موسكو صيغةً وسيطةً تساوم عليه.
تعوّل الإدارة السورية على علاقات جديدة مع روسيا، وتعتبر أنها لن تؤثّر في التزامها بمحاسبة كل من ارتكب جرائم بحقّ المدنيين خلال فترة حكم النظام البائد، انطلاقاً من مبدأ عدم السماح بطي صفحة الجرائم من دون تحقيق العدالة وأنها ستستخدم جميع الوسائل القانونية لملاحقة “الإرهابي الفارّ بشّار الأسد”، والمتورّطين معه في الجرائم ضدّ الشعب السوري، حسبما قال الشرع.