

من الكوارث التي تسبّبت بها الأنظمة الجمهورية العسكرية في عدد من الدول العربية، كارثة القضاء على المعارضة السياسية، أو عدم إفساح المجال أمامها لتتشكل أصلاً، أو تدجينها، لتتحول إلى مجرد استطالة شحمية تزيينية اعتمدتها الأنظمة المعنية للتعمية والتضليل. فهذه الأنظمة، التي سيطرت على مقاليد الأمور بانقلابات عسكرية، كانت غالباً بناء على صفقات مع المتحكّمين بالمعادلات الإقليمية والدولية، رفعت شعارات كبرى كان القصد الأساسي منها هو إسباغ قسط من الشرعنة الزائفة على وضعها اللامشرعن. تحدثت عن الوحدة بوصفها المفتاح السحري القادر على فتح سائر الأبواب. وزعمت أن الوحدة ستساعد في إنجاز مهمة تحرير فلسطين، وستمكّن من مقارعة مشكلات الأمية والمرض والتعليم والفقر، وستحقق التنمية والتقدم، وستحرر الإرادات على مستوى الأفراد والأمة. وسيصبح الشعب سيد نفسه، ليكون قادراً على التصدّي للقوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وغير ذلك من التسويفات التبشيرية الأيديولوجية التي كانت وظيفتها الأساسية، وربما الوحيدة، التغطية على عملية الإطباق على الوطن وأهله وثرواته.
وفي غياب، أو تغييب، المعارضة ربطت الأنظمة المعنية مصير الأوطان والشعوب بأنفسها، ولم تتردد سواء بالتصريح أو بالتلميح في اتخاذ الإجراءات والتدابير التي كان من شأنها تدمير كل شيء من أجل البقاء. هذا في حين أن المعارضة ممثلة بالأحزاب والجمعيات والحركات الشعبية كانت، وما زالت، في الأنظمة الديمقراطية تعتبر الضامن لامكانية تجديد النظام السياسي عبر معالجة السلبيات في الوقت المناسب؛ والحيلولة دون تراكمها وبلوغها مرحلة انسداد الآفاق.
ومن دون وجود أحزاب تعبر عن الإرادة الحرة لأعضائها لا يمكن بأي شكل من الأشكال الحديث عن نظام ديمقراطي تعددي، نظام يحترم سائر التوجهات، ويستوعب الآخر المختلف، ويسمح بالمساءلة والمحاسبة، ويحتكم إلى رأي الشعب عبر انتخابات شفافة نزيهة، تحدد نتائجها الأحجام الحقيقية للقوى المتنافسة على الحكم التي تقرّ بالتداول السلمي للسلطة. انتخابات تجسّد إرادة الناس على الصعيد الواقعي لا الشعاراتي الديماغوجي التجييشي.
هذا بينما اتخذت الأمور في ظل الأنظمة الملكية العربية باسمائها المختلفة منحى آخر أكثر نضجاً واستقراراً وفائدة لشعوبها على كل المستويات. فقد تمكنت هذه الأنظمة من تحقيق إنجازات كبيرة في دولها، وتمكنت بفضل الإدارة الرشيدة لثرواتها من تحقيق ما يمكن تسميته بالرخاء الاجتماعي الذي يتقاطع في أوجه كثيرة منه مع نظام الرفاه في الدول الاسكندنافية، وذلك من جهة تأمين متطلبات العيش الكريم لكل المواطنين، وتجسير الفجوات ضمن المجتمع عبر الإصلاحات التي تراعي حاجات الناس وقدراتهم، وتفسح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم، وكل ذلك أسهم في الحفاظ على التوازن والاستقرار المجتمعيين.
وبالعودة إلى كارثة إلغاء المعارضة من جانب الأنظمة الجمهورية العسكرية في منطقتنا، يلاحظ أن الأزمات المستعصية التي تعاني منها دول عديدة في منطقتنا راهناً إنما هي من مخلفات تلك السياسات والممارسات المتوحشة التي اعتمدتها الأنظمة المعنية بهدف البقاء في الحكم وإلى الأبد.
ونستطيع في هذا المجال أن نتناول على سبيل المثال ما حدث، ويحدث في كل من ليبيا والسودان وسوريا، مع الإشارة في الوقت ذاته إلى أن الأوضاع في بقية الجمهوريات العسكرية ليست هي الأخرى على ما يرام.
ففي ليبيا، كانت الأحزاب السياسية ممنوعة في عهد القذافي الذي امتد على نحو أربعة عقود. وكان الشعار المرفوع في كل الأماكن هو: من تحزّب خان، وهو الشعار الوارد في الكتاب الأخضر. وكانت الأجهزة الأمنية القمعية بالمرصاد لأي نشاط سياسي معارض علني أو سري، وكانت العقوبات على غاية القسوة. هذا في حين أن الأحزاب السياسية تمثّل الركن الأساس في أي نظام ديمقراطي. أحزاب تطرح برامجها وأنظمتها الداخلية أمام الجمهور، وتشارك في انتخابات حرة نزيهة شفافة. فالبلاد كان يحكمها شخص وحيد هو القذافي نفسه، أما كل الواجهات الأخرى مثل المؤتمرات الشعبية الفرعية، والمؤتمر الشعبي العام، والحكومات والأمانات الشعبية وغيرها من الأسماء، فقد كانت مجرد أدوات للتضليل تستخدم لتجميل صورة النظام الدكتاتوري القمعي.
بالإضافة إلى غياب الأحزاب في ليبيا خلال عهد الجماهيرية، لم تكن هناك منظمات مجتمع مدني، ولم تكن هناك نقابات مستقلة تدافع عن حقوق أعضائها. وقد عاني الليبيون كثيراً من هذه الوضعية حتى بعد سقوط سلطة القذافي وصدور قانون متقدم للأحزاب في ربيع عام 2012. وتفسير ذلك يتشخص في عدم تمكن الأحزاب الحديثة من التجذر في المجتمع الليبي بعد عقود من التصحر السياسي؛ ولعل هذا الأمر يلقي ضوءاً ساطعاً على الكثير من الخلافات والصراعات بين الليبيين الذين توحّدوا في مواجهة حكم القذافي، ولكنهم سرعان ما تفرقوا بعد سقوطه، وتوزعوا بين الشرق والغرب ربما تحت تأثير الحساسيات والذكريات القديمة التي استغلها الطامعون في السلطة والثروة، وما زالوا يفعلون ذلك.
فلو كانت هناك أحزاب وطنية مؤثرة ومنظمات مجتمع مدني فاعلة، لكان في مقدورها التدخل لدفع الأمور نحو حوارات جادة مسؤولة بهدف الوصول إلى توافقات وطنية لصالح سائر الليبين في جميع أنحاء البلاد. ولكن في غياب الأحزاب ولغة السياسة، طغت قرقعة السلاح من جانب الفصائل المسلحة والميليشيات والمرتزقة على كل الأصوات، وأصبحت الأساس في حسم الخلافات وفرض الإرادات، وذلك عبر محاولات إلغاء الآخر المنافس، أو على الأقل اضعافه وتهميش دوره وإخراجه من المعادلات.
وقد ساعدت القوى الإقليمية والدولية في دفع الأمور تجاه هذا المنحى، وذلك بناء على مصالحها ومشاريعها الخاصة بالهيمنة على الثروات الليبية، لا سيما النفط والغاز. ولعل هذا ما يلقي الضوء على سرّ استعصاء الأزمة الليبية على كل الحلول التي طرحت حتى الآن. فعلى الصعيد الوطني لا توجد قوى منظمة تدافع بقوة عن وحدة وطنها وشعبها، وقادرة على ضمان حقوق الليبيين في سائر الجهات. كما لا توجد قوى إقليمية، وحتى دولية، لديها توجه حقيقي لمساعدة الليبيين على استعادة بلدهم وثرواته.
أما في السودان، ورغم وجود أحزاب كبيرة لها تاريخ عريق وبصمات واضحة في معالم الحياة السياسية السودانية؛ إلا أن الأنظمة العسكرية المتعاقبة على الأقل منذ أيام جعفر النميري، اضطهدت واعتقلت وأعدمت قياداتها، واتهمتها تارة بالخيانة، وبالكفر تارة أخرى. ولم تتغير الصورة كثيراً لاحقاً في عهد البشير الذي ركز على الجيش، واعتبره الأداة الأهم، بل الوحيدة للمحافظة على حكمه، ودعم استمراريته.
ومع انطلاقة الثورة السودانية الشعبية التي أنهت حكم البشير الفاسد، اعتقد السودانيون أنهم قد تخلصوا أخيراً من حكم العسكر، وأنه أصبح في استطاعتهم تقرير مصيرهم بأنفسهم بكل حرية، ولمصلحة بلدهم وشعبهم، خاصة الشباب؛ وهو الأمر الذي لم يحصل بكل أسف رغم التعاضد الذي أظهره السودانيون في ما بينهم، ورغم كل الالتفاف الشعبي الذي تمثل في تحالفات القوى السياسية والنقابية والمدنية السودانية. فقد تمكنت المؤسسة العسكرية من التحايل على الموقف، وقدمت نفسها بوصفها ضمان وحدة البلاد واستقرارها وأمن السودانيين. ولكن سرعان ما تبين للناس أن قيادات الجيش لم تكن في وارد التخلي عن السلطة ولا بأي شكل من الأشكال، وهي ما زالت على هذا الموقف إلى يومنا الراهن. وهذا ما يفسر إصرارها على تهميش سائر القوى السياسية.
أما في سوريا فقد اختلف الوضع بالنسبة إلى الأحزاب السياسية بعد دخول قوات هيئة تحرير الشام، والفصائل المتحالفة معها إلى دمشق. فقد أصبح حزب البعث، حزب السلطة وواجهتها، محظوراً بعد أن اتخذ قرار بحله؛ كما تم حل أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» التي تمكن حافظ الأسد من تدجينها. أما الأحزاب الأخرى فهي أصلاً لم تكن أحزابا مرخصة من قبل السلطة البائدة، بل كانت مضطهدة وملاحقة؛ ولم تكتسب الصفة الرسمية في عهد الإدارة الجديدة، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الأحزاب والتيارات السياسية التي توزعت بين إعلان دمشق وهيئة التنسيق، وكذلك الأحزاب الكردية والسريانية والتركمانية، بالإضافة إلى الأحزاب الحديثة التي تشكلت في زمن الثورة.
والأمر اللافت في موضوع الأحزاب هو أنه لم توجه الدعوات إلى الأحزاب السياسية للمشاركة في «مؤتمر الحوار الوطني» كأحزاب، وإنما وجهت الدعوات إلى أفراد ضمن تلك الأحزاب بصفتهم الشخصية لا الحزبية.
هل لهذا الأمر علاقة بتوجهات الإدارة الجديدة وتصورها للدولة السورية ونظام الحكم الذي ستعتمده؛ خاصة أن هذه الإدارة ما زالت تلتزم الصمت بخصوص مصطلح الديمقراطية؟ وجوهر الديمقراطية، كما هو معروف، يتمثّل في الإقرار بأن الشعب هو مصدر السيادة؛ ومن المفروض أن يعبر عن رأيه وفق الآليات المتعارف عليها، وذلك سواء عبر استفتاء عام، أو من خلال انتخابات تشريعية شفافة تشارك فيها الأحزاب السياسية ببرامج سياسية وطنية واضحة معلنة؛ أحزاب تمثل التنوع السوري على المستوى السياسي، وتشارك عبر ممثليها في الحوارات الوطنية المعمقة الرامية إلى التوافق على عقد اجتماعي وطني جامع، يكون أساساً لدستور دائم يضع البلاد على سكة الاستقرار الذي لن يتحقق من دون استقرار مجتمعي عام يكون مقدمة لنهوض اقتصادي يضع حداً للمعاناة السورية، ويضمن مقومات العيش الكريم للجميع من دون أي استثناء.