

خاضت أغلبية السوريين في الفترة الأخيرة نقاشاتٍ غريبة تفتقد المنطق، وفيها توترٌ مدهش في الردود على الطروحات، كأن يقول أحدهم مُحقًا مثلًا: لا يجوز قتل الأبرياء من العلويين في الساحل، ولا يجوز شنُّ حملةٍ ضد الدروز ثم لومهم كلهم، وكأنهم كتلة سياسية واحدة، والأفضل أن تنفتح السلطة على الجميع”، فيكون الرد “تريدون إسرائيل يعني”! أو يرد آخر: “ما مشكلتكم مع الإسلام؟! وأيضًا، نوعٌ آخر، كأن يقول أحدهم لبعض أهالي السويداء: خطيرٌ جدًا أن تكون في السويداء “درزية سياسية”، ولا يجوز أن يكون خطابها طائفيًا غير وطني؛ فيكون الرد: “برافو أنت صرت تشبح للشرع”!
مع كثرة هذا النوع من الردود، وَصَل التوتر إلى سد باب الحوار في أحيانٍ كثيرة، وتولَّد ضجيجٌ مدهشٌ، صار المرء معه بحاجةٍ إلى مساحةٍ هادئةٍ ملائمةٍ للتفكير، والاستنتاج، والفهم؛ ثم الكتابة، والنشر. ولأن الظاهرة فيها كثيرٌ من الذاتية، صار هذا النشر (الذي أنت على وشك قراءته عزيزي القارئ) نوعًا من “الفضفضة” الممزوجة بالموضوعية.
نفضفض في هذه الظاهرة الفظيعة التي بدأت تفصل ولا توصل، ونناقشها في العناوين الثلاثة الآتية:
1) حديثٌ عن الذائقة السياسية.
2) الطائفة والذائقة والعمل السياسي.
3) كيف نكون حُكَّامًا ومحكومين، أو “منطقة السياسية”.
أولًا: حديثٌ عن “الذائقة السياسية”:
التوجه السياسي للفرد فيه شيءٌ من ذائقة، يستسيغ المرءُ فيه ما يتذوَّق، وليست الذائقة السياسية انعكاسٌ لوعي الفرد، وثقافته، فحسب، مع أهمية ذلك، إنما هي انعكاسٌ لطيبته أيضًا: أخلاقه، وأدبه، وتواضعه، وشعورة بالمسؤولية، ومحبته للآخرين، واستشعار الخطر المُحدق بهم، والعمل على تفاديه، أو مساعدتهم في ذلك. وأول ما تظهر الحرية في نوعية هذه الذائقة لأنها شيءٌ يتجاوز الموضوعية.
أن يكون الإنسانُ طيبًا نعمةٌ كبيرة. والطيبةُ، إذا استخدمناها سياسيًا، مفهومٌ يتضمن القوَّةَ بالضرورة، لأنه يتضمن العفو؛ فالقوي الطيب فحسب هو القادر على العفو، وهو القادر على السعي إلى السلام الدائم. هذا يعني أن الأذكياء هم الطيبون، والعمق السياسي الوطني يكون للطيبين، الذوَّاقين.
الذائقة السياسية هي طريقة تفادي القتل الوحيدة التي نمتلكها اليوم، وطريقة بناء المجتمع السياسي، وطريقةُ النقد أيضًا؛ فالنقد الذي يتسم بـ “قلة الذوق” لا يصير نقدًا، بل استعراضًا يُعبِّر عن بقايا الشر الكامن، المُخزَّن في نفوسنا نتيجة الظلم والحيف الذي مرَّ على رؤوسنا خلال الفترة الماضية، وقد يكون نتيجةَ شيءٍ آخر غير ذلك أيضًا: مثل التربية، والخلل النفسي، وداء الـ “أنا”، وغياب التفكير، والسقوط الكارثي للضمير.
ثانيًا: الطائفة والذائقة والعمل السياسي
وأيضًا، الطائفةُ ظاهرة لا تدع مجالًا للذائقة لتنمو، ليس لأنها تمنع المرء من أن يكون طيبًا، أو واعيًا، أو مثقفًا، أو ما إلى ذلك، لا أبدًا؛ بل لأنها تمنعه من أن يكون فردًا: تحارب اكتمال فرديته وتُرجِّح عنده كفة التابعية على كفة الاستقلال والحرية؛ ومن ثم كفة الطاعة والتسليم على كفة العمل والتفكير. وبالطريقة نفسها تعمل القبلية، والعشائرية، والعائلية؛ وأيضًا الأحزاب العقائدية، والجماعات الأيديولوجية التي يكاد يكون أفرادها نسخًا من بعضهم.
الحقيقةُ بنت الخطأ، وبنت التفكير، بينما الطائفة (أي طائفة)، بنت المُسلمات النهائية، والإذعان من دون تفكير.
الذائقة السياسية تقودنا إلى الحرية، وممارسة الحرية هي التي تُولِّد السلطةَ السليمة بمرور الزمن. وتبدأ الذائقة من كلمة مُهمة هي “العَمل”؛ فالعمل السياسي مثل الولادة، يحتاج إلى اختلافٍ ليُنتِجَ الجديد؛ وكما تكون الولادة نتيجة اكتمال الذكورة بالأنوثة والعكس، أيضًا يأتي الجديد في السياسة من اكتمال العمل بالاختلاف والعكس. والطائفة عدو الاختلاف، ولذلك هي عقيمة لا تلد جديدًا، بل تصنع من قديمها حقائق ثابتة، ولا تعير وزنًا للزمان، ولا قيمةً للعمل والتفكير الذي يأتي بالجديد. والولادة (بما تتضمن من الجديد والجميل)، مرتبطة بالعمل جدًا: مثلًا، تُستعمل في اللغة الإنجليزية كلمة واحدة هي (Labor) للدلالة على المعنيين معًا.
يبدأ العمل السياسي من رحلة تطوير الذات، وتوسيع الأفق، والتمرين المستمر على الاختلاف، ثم تطوير الوطن بهذه الذات التي تتطوَّر، ويتسع أفقها الذهني. والطائفة مضادة لتطوير الذات، لأنها أفقٌ ضيقٌ لا يعترف بتمرين الاختلاف.
الخطأ مع أبناء الوطن يعني “العمل” الدائم على تصحيحه، والحقيقة مع الطائفة تعني غياب العمل، ومن ثم غياب ولادة أي شيءٍ جديد غير الذي نعرف؛ فيصير الماضي ملجأً للكرامة ننبش فيه بعضًا ممَّا يرضي حاجتنا إليها عندما لا نلد شيئًا، فنقدِّس الماضي، ونعلي من شأن العقم الحاضر، وهذا طبيعي لأن كلَّ ولادةٍ
جديدة تهديدٌ للعقل القديم، وتعني في العمق ولادةَ عقلٍ جديد، وعالمٍ جديد. وبالعمل الولّاد فحسب يستحق العقلُ اسمَه بوصفه يُفكِّر، أو لا يظل عقلًا، بل دماغًا بيولوجيًا فحسب.
الطائفة ومنتفعاتها، بما فيها القبيلة والأحزاب الأيديولوجية التي تنتج بشرًا متشابهين، ليست وسائلَ لمحاربة التطرف الإسلامي الذي يخاف كثيرُ السوريين من إمكانية انتشاره مع وصول أحمد الشرع إلى السلطة، وأيضًا، إذا ناهض أحدنا الطائفية، وتسييس الطوائف، لا يعني أبدًا أنه ينحاز بإذعانٍ للسلطة الحالية أو للسنة؛ فهذا، واللهِ، موضوعٌ منفصل، واستنتاجٌ ركيك.
أفضفض بذلك لأنه صار مدهشًا؛ فلقد اختبرت شخصيًا في المرحلة الماضية هذا النوع من الردود مثلًا: إذا قلنا رأيًا يقول: كارثي أن نكون طائفيين، بل لنكن وطنيين؛ فالطائفية تجلب الاحتلال، وتعزل الناس، وترفع احتمال القتل والمجازر، إضافةً إلى أنها نمط سياسي عاطفي لا عقل فيه؛ فنلقى أجوبةً من قبيل و”أنت معاجبك الشرع والدستور تبعه”؛ “أنت صرت مؤيد للجولاني”، “يا حيف تتخلى عن أهلك وتطبل للإسلاميين”، إلى ما هنالك من هذا النوع من النقاش (نضعه باللهجة العامية ليكون النقل دقيقًا). وأفضفض أيضًا بمسألةٍ معاكسة، إذا قلنا رأيًا يقول: ثمة ضرورة لكي تساعد الدولةُ (ممثلةً بالسلطة الانتقالية الحالية) السوريين كلَّهم على مقاربة أنفسهم بوصفهم مشروع مواطنين، من دون أي تأثيرٍ لحمولاتهم الدينية والطائفية والقبلية، وإن واحدًا من أكثر المسائل أهميةً ونضجًا في سوريا أن “السنة” لم يتحولوا إلى طائفة، ولا يزالون قادرين على أن يكونوا حاضنة مشروعٍ وطني كما كانوا عبر تاريخ سوريا، مثل تجربة عبد الرحمن الأطرش وسلطان الأطرش؛ وينبغي على الدولة أن تكون مسؤولة عن حماية السوريين كلهم، وعدم تحويل السنة إلى طائفة؛ فيجيب أحدهم: “غريب أن تكون ضد من حررنا من الأسد فقط لأنه إسلامي”، “إنشالله مصدق كذبة الأقليات تبع الدول”، ومرةً ذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك فقال لي: “يعني أنت برأيك هلق إسرائيل أحسن من الشرع”!. معقول؟!
ثالثًا: كيف نكون حُكامًا ومحكومين، أو منطقة السياسة.
هذا الانفصال عن موضوع النقاش الذي لمسناه في نوع الردود الغريبة السابقة، وربط ما لا يُربط، هو نقصٌ حاد في الذائقة السياسية، والذائقة الوطنية، ومن ثم بالضرورة مُنغِّص من منغصات التمتع بالحرية، والانعتاق من واحدٍ من أكثر الأنظمة دمويةً في التاريخ الحديث. هذا لأن الذائقة تعمل في منطقة السياسة، وهي المنطقة التي توجد بين الإذعان والعصيان، فلا يكون المرء في هذه المنطقة مواليًا بالمُطلق مثل “الشبيحة”،
ويسوِّغ ما لا يمكن تسويغه من أخطاء، ولا يكون أيضًا متمردًا بالمطلق مثل الثائر، لأننا لسنا في صدد ثورة، بل في صدد بناء. والبناء يحتاج إلى تثقيفٍ في أمرين، ضروريين لبناء الذائقة السياسية (وهي ذاتها الذائقة الوطنية الآن) هما: كيف نَحكُم، وكيف نكون محكومين. نحن السوريين، نتكلم كثيرًا في الجزء الأول، وكلُّ واحدٍ منَّا لديه ميلٌ إلى نظريةٍ معينة في طريقة الحكم، ولكن في حدود معرفتي لم نبدأ أي نقاشٍ في الجزء الثاني: أي في أن نتعلم كيف نكون محكومين، وظل نصف السياسة هذا ضمن غير المُفكَّر فيه.
نحن نعرف من أن “نكون محكومين” أمرين: أن نُذعن (نرضخ كما كنا قبل ٢٠١١) أو أن نتمرد (نثور كما فعلنا بعد ٢٠١١)، لكن لم نناقش أو نتعلم ما بين الأمرين وهو كيف نُحكَم (بضم النون وفتح الكاف): يعني بتكثيفٍ أن نعمل في منطقةٍ بين الاذعان والعصيان، حيث توجد الحياة السياسية، وحيث تنمو الذائقة السياسية وتتطور.
لا يتعلم المرء أن يكون محكومًا إلا إذا تعلم كيف يخلط الإذعان والعصيان، ويمزجهما في مفهومٍ جديدٍ واحد. وفعل الخلط والمزج هذا هو التفكير السياسي. غير ذلك استقالة من السياسة، وإخلاءُ سوريا للسلاح، والأيديولوجيا، والانتقام، والتمترس على الجماعة الطائفية والقبلية، وما إلى ذلك من وصفاتٍ جاهزةٍ للقتل مُجرّبة.
ثمة موهبتان تعملان ضد الذائقة السياسية، نحن تعلمنا هاتين الموهبتين وطوَّرنا فيهما في المرحلة السابقة، هما موهبة تمجيد السلطة، وموهبة تحطيمها، وكان بعضٌ ممن كنَّا نسميهم الموالاة يطورون موهبة التمجيد بكل الوسائل التي بين أيديهم، ووصلوا فيها إلى أقصى الحدود المُمكنة. والبعض الآخر (وصاحب هذه السطور منهم) كان يطوِّر ليل نهار موهبة تحطيم السلطة بكل ما تسعفه مهاراته في التعلم. ويبدو أن بعضَ السوريين يعجبهم اليوم أن يتحولوا إلى موالين ويسرقون موهبة التمجيد، وآخرون يعجبهم أن يسرقوا موهبة التحطيم، وهكذا تعجبهم فكرة تبادل الأدوار ويرتاحون لها، الأمر الذي يضعف قدرتهم في أن يكونوا محكومين؛ فموهبة التمجيد، وموهبة التحطيم، تؤديان بالضرورة إلى ضعفٍ في القدرة على أن نكون محكومين، وتضعنا خارج السياسة.
أن نكون محكومين يعني أن نعمل في المنطقة التي يكون فيها السؤال الآتي مُمكنًا: كيف نتعلم أن نُخدَم (بضم النون وفتح الدال)، فالحاكم خادمٌ للمحكوم، الأول يتعلم كيف يَخدُم، والثاني يتعلم كيف يكون مَخدُومًا، وهذا الأخير تتفرع منه مجموعة من التمارين منها: أن نَشكُر عندما تكون الخدمة جيدة، ونُشجِّع ذلك ونُثمِّنه.
أن ننقد الخدمة عندما يكون فيها أخطاء مُحدَّدة، وأن نُعلِّم الخادم (أي الحاكم) كيف يصحح الخطأ، وكيف نريد الخدمةَ بالضبط. أن نحذِّر عندما تسوء الخدمة، ثم نُؤنِّب إن ساءت الخدمة أكثر. وأخيرًا أن نعزله بسلاسةٍ إن لم يأتِ التأنيب والإنذار بنتيجة.