![ملاحظات وخواطر ثانية عن سوريا في زمن جديد](https://i0.wp.com/horrya.net/wp-content/uploads/2021/05/opnion.jpg?fit=1200%2C628&ssl=1&resize=120%2C120&quality=100&strip=all)
![](https://i0.wp.com/horrya.net/wp-content/uploads/2016/08/%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC-%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD.jpg?resize=333%2C300&ssl=1)
في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسديين، تركزت خشية قطاعات متنوعة من السوريين على مخاطر حكم ديني متشدد، طالباني من نوع ما، بالنظر إلى الأصول السلفية الجهادية للمحررين الجدد، وربما الجغرافيا الأفغانية للسلفية الجهادية الأولى. ودون أن تزول هذه الخشية، فإنه بعد شهرين ونيف من السقوط/ التحرير (والكلمتان هما الأكثر شيوعاً في تداول المتكلمين السوريين) تصعد المؤشرات على مخاطر حكم تسلطي متمركز سنّياً. تسنين الجيش وجهاز الأمن العام، وتركز السلطات في يد الإدارة الانتقالية الجديدة وعمادها هيئة تحرير الشام، يسوغان كفاية الخشية من حكم تسلطي من الصنف الشائع عربياً (الحكم الأسدي كان إبادياً، وليس تسلطياً). وما يرجح مساراً تسلطياً خفيف الإيديولوجيا هو التحول ما بعد المتوحش أو ما بعد الغولي لإسلاميي هيئة تحرير الشام من جهة، والعاملان العربي والدولي اللذان يبدوان قويي التأثير على الشؤون السورية في الشهرين الماضيين من جهة ثانية. تتطلع الإدارة الجديدة إلى أن يجري تطبيعها إقليمياً ودولياً (وما يقتضيه ذلك من ابتعاد عن السياسة الدينية) لاعتبارات سياسية وأمنية مفهومة، وكذلك لاعتبارات اقتصادية ثقيلة الوطأة ولا يتصور أن تخف في السنوات العشر القادمة.
ولا يتوافق التمركز السني للحكم حتماً مع أسلمة إيديولوجية نشطة وعدوانية حتماً، لكنه لا يستبعدها كذلك. وبخاصة إذا تعثرت السير نحو شرعية قانونية ومؤسسية في الشهور والسنوات القليلة القادمة، أو إذا احتدت التوترات الاجتماعية التي يتقاطع فيها الطبقي بالطائفي والجهوي. وبالمجمل، قد نعيش مع هذين الشرطين: تشدد ديني وحكم تسلطي، وربما تستقر هذه الثنائية كشرط بنيوي طويل الأمد.
ديمقراطية وعلمانية: فإذا صحت هذه التقديرات، تعين للنضالات الديمقراطية في البلد أن تجمع بين التركيز على قضايا العدالة الاجتماعية والحريات العامة من جهة، والمواطنة المتساوية وسيادة القانون ومقاومة الاستثناءات والتمييز من جهة ثانية، أي باختصار بين تطلعين ديمقراطي وعلماني. وهذا يستجيب لواقع راهن يتمثل في وصل سلطتي الدين والدولة أو تقاربهما غير المسبوق اليوم، كما يتجاوز «الفصام النكد» بين الديمقراطية والعلمانية طوال عقدين، الأخير من حكم حافظ والأول من حكم بشار. خلال تلك السنوات كانت العلمانية بالفعل إيديولوجية داجنة وشاهدة زور على الأوضاع السياسية والحقوقية في البلد، بشهادة أعمال كبار دعاتها الذين لم يكتفوا بمعاداة الإسلاميين (دون ذكر شيء حتى عن حقهم بالعدالة، ومن باب أولى الحق في السياسة) بل وكذلك تسفيه الفكرة الديمقراطية الموصوفة بـ«الديمقراطوية» و«العدمية حيال الدولة» وصولاً إلى تزكية حرمان الأميين من التصويت في انتخابات حرة لأن المشكلة في «صناديق الرؤوس» فلا تحل بصناديق الاقتراع، كأنما كنا «مهددين» بأي صناديق اقتراع وقتها (ناقشت ذلك بقدر من التفصيل في كتابي: الثقافة كسياسة، المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان، بيروت، 2016). يحتاج المرء إلى إرادة عدم معرفة قوية العزم حتى يجهل ذلك. نستحضره اليوم للقول إنه يُستبعد للحاجة إلى علمانية ديمقراطية ومقاتلة أن تجد ما يُستند إليه في العتاد الفكري والسلوكي للمعنيين من العقدين المذكورين. نقد ذلك التراث والانخراط في صراعات اليوم هو، بالعكس، ما من شأنه أن يستعيد كرامة الفكرة العلمانية ويجدد شباب التفكير العلماني.
داخل وخارج: الملاحظة المتواترة تفيد بأن النقاش السياسي في الداخل السوري الجديد أكثر تنوعاً وأقل اختزالية، وفي كل حال أكثر تفاعلية، من النقاش خارج البلد. ولعل هذا وثيق الصلة بوفرة التفاصيل التي تتاح للمهتم كل يوم في الداخل. وهي إن كانت تنهى عن شيء فهو التبسيط والاختزال. تأخذ الأشياء أبعاداً أكثر درامية و«شعرية» من بعيد، بينما تظهر «نثرية» وأقل احتداماً وأكثر اختلاطاً عن قرب. ليس في هذا ما يعطي ميزة دائمة للنظرة الداخلية. فنحن نحتاج إلى مسافة كي نرى، وهو ما يتاح من بعد، لكننا نحتاج قبل كل شيء أن نعاين ونشهد ونختبر، أن نحدّق، وهو ما يتيحه القرب.
يمكن اقتراح تمارين قاعدية على الحوار، يبادر إليها مهتمون بالشؤون العامة في ما يتاح لهم من مساحات للقاء والكلام، وربما تخرج بوصايا ينظر في شأنها المؤتمر المزمع
على أنه يجمع بيننا، أصحاب الموقعين معاً، الحاجة إلى إعادة اختراع النفس من أجل إشغال موقع مبادر في ظروف متغيرة، مختلفة نوعياً عما سبقها طوال عقود. هناك بداية كبيرة في تاريخ سوريا، ومن شأن التفاعل والاشتباك الفكري والعاطفي والنفسي معها أن يعود علينا ببدايات شخصية، وبقدر من التغير الضروري. استعداداتنا الموروثة تسير في الواقع في اتجاه معاكس: رفض أخذ العلم بالتغير الكبير، وقبله رفض أخذ العلم بالثورة، ودوماً رفض للتغير الشخصي، والمثابرة على عتاد فكري وسياسي وتنظيمي قديم. هذا مقاومة للتعلم وللحرية، ذلك أننا أحرار فقط بقدر ما نغير أنفسنا، بقدر ما لا نبقى كما نحن مدى الحياة، كأننا في سجن مؤبد.
موت وحياة : في سوريا قوى موت فاعلة، بعضها استمرار لما هو قديم من كراهيات وطائفية وسوقية وبذاءة وفساد طال أمدها فترسخت في الأنفس والأحوال، وبعضها ناشئ، يتصل بقوى تجمع بين طائفية محتقنة وعجرفة دينية سياسية ونوازع استئثار محمومة في تركيبة القوى المسيطرة الجديدة. لكن في سوريا اليوم روحا ناشئة نشطة. هناك اجتماع الناس وتفاعلهم ونقاشهم، وقلة خوفهم من بعضهم، بل وشجاعة ورفع رأس، وكذلك إرادة للحياة والتعاون لم يشهد مثلها من قبل. وهي، الروح، بعد ذلك وريثة تجارب كاوية مديدة، يسارع البعض سلفاً لإسدال ستار من النسيان عليها، وقد يعضدون النسيان بإرادة عدم معرفة قوية العين بدورها. هذا خاطئ كسياسة لأنه يجازف بالوقوع مجدداً في ما سورع إلى نسيانه، بدل استحضاره بقوة في النقاش العام وترسيخ مبدأ عدم تكراره، وهو خاطئ أخلاقياً لأنه ينطوي على تمييز وعدم احترام بحق من عانوا أكثر من غيرهم من تلك التجارب الكاوية، أي نسيان من كانوا منسيين قبلاً. حماية الروح الجديدة توجب مقاومة النسيان، كما مقاومة قوى الموت الموروثة والجديدة.
وفي سياق عدم التكرار (never again) ومقاومة الموت، تشغل قضايا نوعية مثل تحريم التعذيب موقعاً مركزياً في جدول الأعمال الديمقراطي الجديد لأن التعذيب كان ركيزة بنيوية للحكم الأسدي، ولأنه عنوان لهياكل وممارسات وتكوينات نفسية مقوضة للمجتمع، وليس للسياسة وحدها. وهو بعد مطلب أسمى راهن بالنظر إلى ما رأينا سلفاً من أفعال تعذيب وإذلال، أي من ممارسات موتية، خلال الشهرين الماضيين. وبالمثل تشغل قضية تحريم الحكم الأبدي، وبالتالي تداول السلطة، مكانة مركزية في الأجندة الديمقراطية بالنظر إلى اقتران الأبد بالتعذيب والإبادة، الموت المعمم. لذلك، فإن من شأن إقرار هذين البندين كمبدئين دستوريين، بل فوق دستوريين، أن يمثل قفزة قانونية وسياسية وأخلاقية كبرى إلى الأمام.
قواعد وتمارين: ولعله يمكن التفكير كذلك، ونحن في بداية جديدة، في بلورة بعض القواعد القانونية الأخلاقية الضابطة لأدوار شاغلي مواقع السلطة العمومية. ومنها مثلاً أن من في السلطة لا يُشكّرون إذا أحسنوا الفعل (فهذا واجبهم) ويلامون إذا قصّروا أو أساءوا؛ ومنها الفصل بين الحكم والحب، فمن يحكم لا يُحب أو يُغنى له أو يُهتف باسمه أو يُمجّد وتُعبَد شخصيته في وسائل الإعلام؛ ومنها أن من في السلطة ينضبطون بأخلاقية المسؤولية، وليس بأخلاقية الاعتقاد ولا بأخلاقية النية (التمييز لماكس فيبر) فهم يساءلون عن عواقب أفعالهم (فيستقيلون وقد ينتحرون) وليس لهم أن يسوغوا العواقب السيئة بمعتقداتهم الدينية أو غير الدينية، أو بنياتهم الحسنة؛ ومنها أخيراً أنه ليس مهماً من يحكم، بل كيف يحكم، فلم تكن مشكلتنا مع حافظ وبشار في أنهما علويون مثلاً، بل في أنهما مجرمون وأنانيون، قام نظامهما على العنف والكذب والتمييز المنهجي بين محكوميهما، وهذا ممكن الحدوث من قبل منحدرين من منابت سنية كذلك.
وهذه على أي حال من جملة القضايا التي يتعين أن يتناولها ويقرر في شأنها مؤتمر الحوار الوطني الذي يفترض عقده في الأسابيع أو الشهور القادمة. وقد يمكن هنا اقتراح تمارين قاعدية على الحوار (اقترح مثلها المرحوم رياض الترك عام 2001) يبادر إليها مهتمون بالشؤون العامة في ما يتاح لهم من مساحات للقاء والكلام، وربما تخرج بوصايا ينظر في شأنها المؤتمر المزمع. وقد تكون تمرينات تجري في الأحياء والبلدات والقرى، مساهمة في هذا الشأن كذلك، تستحضر بصورة ما فكرة المجالس المحلية التي طور فكرتها وعمل من أجلها الشهيد عمر عزيز. من شأن مبادرات كهذه أن تسهم في صنع المجتمع وسياسته ذاتياً، بينما يفترض بمؤتمر الحوار الوطني أن يخرج ببعض القواعد العامة لتسيير مؤسساته السياسية الجامعة.