في سوريا.. السياسة أولاً، الاقتصاد ثانياً، والإيديولوجيا آخر شيء

ياسين الحاج صالح30 يناير 2025آخر تحديث :
في سوريا.. السياسة أولاً، الاقتصاد ثانياً، والإيديولوجيا آخر شيء
الكاتب والمعارض السوري ياسين الحاج صالح

سوريا في حاجة إلى دعم مالي إسعافي من أجل إعادة الإعمار ودوران عجلة الاقتصاد من جديد، شيء أشبه بمشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن البلد في حاجة بقدر أكبر إلى هياكل سياسية عقلانية، موثوقة اجتماعياً، تنضبط بالقانون وتعمل بشفافية ويتحمل مديروها المسؤولية عن أفعالهم، وهذا من أجل أن يكون أي ضخ محتمل للأموال مجدياً. ليس الحال كذلك بعد في سوريا، وليس ثمة ما يشير إلى أن الإدارة الجديدة تحوز رؤية سياسية واضحة للمستقبل كإطار للتنمية الاقتصادية ومعالجة المشكلات الاجتماعية الملحة، وبخاصة الفقر والبطالة. الوعد باقتصاد قائم على السوق، ووصف الاقتصاد السوري في الحقبة الأسدية بأنه اقتصاد اشتراكي، يبدو أقرب إلى خوض معركة إيديولوجية بائتة منه إلى تصور مستقبلي جدي لكيفية النهوض بالاقتصاد السوري في بلد مدمر، تعاني أكثرية سكانه من فقر مدقع. يقتضي الأمر بالأحرى دوراً مهماً للدولة في توزيع الموارد المحتملة وقيادة عملية التنمية على نحو يعود بمنافع على الشرائح الدنيا في البلد، وليس كبار المتمولين ممن يعمل اقتصاد السوق غير المضبوط سياسياً وقانونياً لمصلحتهم. ولذلك فإنه مهما أمكن للنهوض الاقتصادي أن يكون ملحاً فإن السياسة تأتي أولاً، والبناء السياسي العقلاني والمسؤول له الأسبقية من أجل النمو الاقتصادي ذاته. وعلى أي حال، فإن اقتصاد السوق يعمل جيداً، حسب جوزف ستغلتز الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، فقط بوجود نظام تقاض مستقل وفعال يبت في المنازعات المحتملة، ثم بوجود نظام معلومات شفاف حول البيئة الاقتصادية والعقود والصفقات. وقد نضيف شرطاً خلدونياً: ألا تكون الدولة تاجرة، أي ألا يكون الأفضل اطلاعاً على المعلومات المتصلة بالاقتصاد هم أصحاب العقود والصفقات. لا القضاء المستقل الفعال ولا الشفافية سمة مميزة للحكم الانتقالي الراهن.
وعلى أي حال فإن الأموال الإسعافية المأمولة لن تأتي، إن أتت، إلا من واحدة من جهتين: دول الخليج العربية، وبالتحديد قطر والسعودية والإمارات، أو من الاتحاد الأوروبي (يستبعد للولايات المتحدة في ظل إدارة الجابي الكوني ترامب أن تساعد سوريا أو غيرها). ويخشى في الحالة الأولى أن يشرط الدعم المالي بسقوف سياسية تعيد إنتاج الحكم التسلطي على أسس جديدة، فتقيد الحريات العامة في البلد وتسقف التعددية السياسية ويحال دون انتخابات حرة أو يجري تقييد المشاركة فيها. وفي الحال الأوروبية يخشى كذلك من فرض شروط سياسية، تتصل بإسرائيل وأمنها الدائم، وبـ»الإرهاب» ومحاربته، أي بأمن الأوروبيين، ثم ربما بروسيا. وما يجمع الطرفين، العربي والأوروبي، هو أولوية الاستقرار على الحريات السياسية والحقوق الاجتماعية، وعلى أمن السوريين الاجتماعي والوطني.
والإدارة الجديدة في سوريا في وضع ضعيف اليوم حيال القوى العربية والدولية بسبب التركة الثقيلة التي ورثتها من نظام الأسد، ثم بسبب ماضيها الخاص المتطرف، السلفي الجهادي، الذي سيبقى يلاحقها. ورغم ما نالته من شرعية داخلية بفضل تخليص البلد من الحكم الأسدي، إلا أنها ليست في موقع قوي حيال مطالبات المجتمع السوري المتضاربة. والعنف الذي قد يلجأ إليه فريق حاكم يواجه ضغوطاً متنوعة لا يبدو متاحاً للفريق الجديد، ليس فقط بسبب كون البلد تحت أنظار القريب والبعيد في العالم، ولكن لأن من شأنه أن يعصف بالشرعية المكتسبة في مواجهة نظام كان عنفاً مديداً مجسداً.

مشكلات سوريا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تدعو إلى تخفيف الاستقطابات الإيديولوجية، والتركيز بالمقابل على قضايا العدالة والحقوق والحريات، والنمو الاقتصادي

والحال أن ما يخشى من عنف في البلد قد يأتي من ضعف تماسك الفريق الحاكم، وبالتحديد من مخاطر انقلابية قد تأتي من متطرفين فيه أقرب إلى التكوين السلفي الجهادي التقليدي، ومن ساخطين من تشكيلات مسلحة لا يرضيها نزع سلاحها، ولا يبعد أن تلجأ إلى المزايدة الدينية. يفيد أن نستذكر خبرة ما بعد الاستقلال حيث بدأت الانقلابات العسكرية بعد 3 سنوات، ولم تنطو صفحتها حتى حكم حافظ الأسد البلد وطوى الحياة السياسية والاجتماعية، وأحل نفسه ثم سلالته محلهما. سقوط النظام الأسدي هو بمثابة استقلال ثان، يطرح على البلد من جديد تحديات البناء الوطني، ومنها بخاصة تحدي بناء مؤسسات سياسية فاعلة واستيعابية. ولا يبعد أن يفضي التعثر في ذلك إلى الاضطراب السياسي والانقلابات العسكرية، وإلى طور جديد من «الصراع على سوريا» يماثل بصورة ما شهده البلد في خمسينيات القرن العشرين. من يحتمل أن يكون انقلابيو اليوم؟ إنهم ممن حملوا السلاح خلال سنوات الصراع السوري المديدة، وكان غير قليل منهم قد فقدوا أي قضية وطنية عامة، وأجّروا أنفسهم لقوى إقليمية أو دولية هي من يحتمل أن تكون أطراف الصراع على سوريا الجديدة.
ما يمكن أن يضمن انتقالاً سورياً مستداماً لا ينقلب هو أن تحصن الإدارة الجديدة نفسها بأكثرية سياسية واسعة، تشارك في تحمل المسؤولية وتستدرك ضيق التكوين وقلة الكفاءات في أوساط «هيئة تحرير الشام» كما تقوي موقع الحكم الانتقالي حيال القوى الإقليمية والدولية. السنيون السوريون ليسوا تلك الأكثرية الجاهزة، ولم يكونوا كذلك يوماً. وهذا لتعدد بيئاتهم ولانقسامهم على مستويات متعددة، هذا فوق أن الاعتماد على أكثرية موروثة يرسخ الانقسام الوطني على أسس موروثة بدورها، ويضع البلد في أجواء حرب أهلية كامنة مستمرة. الأكثرية السياسية تقوم عبر انتخابات حرة، لكن في الطور الحالي يمكن أن تتكون عبر تفاهمات انتقالية مع شخصيات وتجمعات من غير التابعين لقوى دولية ومن ذوي الدور الاجتماعي الفاعل خلال سنوات الثورة. من شأن عمل الإدارة الجديدة على بلورة رؤية لمستقبل سوريا السياسي تقوم على سيادة القانون والشفافية والمواطنة المتساوية أن تطلق ديناميكية ثقة اجتماعية ووطنية، تضعها (الإدارة) في موقع متقدم خطوة واحدة على الأقل أمام الأطراف المعنية بالشأن السوري وتدفع الآخرين إلى التفاعل معها. وهذا فوق ملاءمة ذلك للتعافي الاقتصادي.
والخلاصة أن اعتبارات الاقتصاد والاستقرار والقدرة على امتصاص الضغوط الإقليمية والدولية بمبادرات تغير البيئة السياسية في البلد، هذه الاعتبارات كلها تحث على إصلاحات مؤسسية أساسية وضرورة توسيع قاعدة السلطة واستقلال الفاعلين السياسيين عن الشرائح الاجتماعية (وعن الدين، وعن الطوائف) بدءاً من هذا الزمن الانتقالي.
على أنه قد يؤخذ على هذا المناقشة بمجملها أنها «تُطبّع» فريقاً مسيطراً، ليس واضحاً أنه كف عن أن يكون سلفياً جهادياً، وهو على أي حال لم يقل إنه لم يعد كذلك. تُطبِّعه بمعنى أنها تتعامل معه كطرف معقول (كيلا نقول: عقلاني) يمكن الأخذ والعطاء معه، ولا يلزم لتحليل مسالكه خلال الأسابيع الماضية أدوات مغايرة لتحليل مسالك قوى اجتماعية سياسية دنيوية أخرى. بلى. وهذا من باب رفض خوض معركة إيديولوجية، طالما كان ذلك ممكناً، أي طالما أن الجماعة الحاكمة لا تعمل على فرض أيديولوجيتها. وظاهر اليوم أن ركني السلفية الجهادية، الركن العقدي السلفي والركن الجهادي العنفي، في تراجع في تعريف هذه الإدارة، وإن كان المرء لا يجد بحوزته من المعطيات والمعلومات ما ينفع في تسمية هذا الفريق وتوقع توجهاته على مدى أطول.
مشكلات سوريا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تدعو إلى تخفيف الاستقطابات الإيديولوجية، والتركيز بالمقابل على قضايا العدالة والحقوق والحريات، والنمو الاقتصادي العاجل. كانت مشكلتنا مع الإسلاميين طوال سنوات هي نزعتهم العدوانية إلى فرض إيديولوجيتهم بالقوة العارية بعد ثورة تفجرت من أجل التغيير السياسي والحقوق الاجتماعية. وبالتحديد كانت المشكلة عملهم على تديين الصراعات الاجتماعية بدلاً من تسييسها، أي التفكير بها كمشكلات سياسية تحتاج إلى معالجات وحلول سياسية، هو المسلك الأنسب من أجل التعافي الوطني والتعددية السياسية. التديين، بالمقابل، يحولها إلى مشكلات مطلقة ولا ينفتح على حل غير إبادي لها. ليس من مصلحتنا في الطيف الديمقراطي، وليس من مصلحة عموم السوريين، تنشيط استقطابات إيديولوجية، ومن باب أولى دينية. وهذا حتى لو عمل الإسلاميون على ذلك. والمؤشرات المتاحة اليوم بخصوص سلوك الإدارة الجديدة لا تتجه نحو التديين، وإن لم تكن فاعل تسييس بصورة جلية.

المصدر القدس العربي

اترك رد

عاجل