في الحوار الوطني السوري

فريق التحرير5 يناير 2025آخر تحديث :
في الحوار الوطني السوري

تدور في فلك كلمة الحوار مجموعة من الكلمات، ومجموعة من التوجّسات أيضاً، ومجمل ما يخرج من أخبار عن مؤتمر الحوار الوطني، السوري، تستند إلى مبدأ التسريبات، ومنها لجنته التحضيرية، والهدف منه، والمدعوون إليه… وما إلى هنالك. الانتقال السياسي، والإعلان الدستوري، وإدارة المرحلة، كلّها مفهومات تدور اليوم في فلك مصطلح الحوار الوطني إضافةً إلى كثير غيرها، وكثير من الإشاعات أيضاً.
بدايةً، ثمّة مجموعة من الأسئلة ليس لها أجوبة، وهي بطبيعة الحال لها أولوية: مَن يتحاور مع مَن؟ هل من الملائم أن يتحاور السوريون بوصفهم طوائف وقبائل، وهذا لا يلبّي طموحَ المزاج العام بطبيعة الحال؟ أو يتحاورون بوصفهم أفراداً، وهذا ليس له صيغة تمثيل متّفق عليها؟ ثمّ ما الحاجة إلى الحوار؟ وهل مبدأ الحوار بحدّ ذاته ملائمٌ للمرحلة، خصوصاً أن المرحلة في سورية اليوم تأسيسية أكثر ممّا هي انتقالية. هذا إضافةً إلى مقدّماتٍ كثيرة تنتمي إلى نمط التفكير نفسه، تدعونا إلى مقاربة المسألة.
في الواقع القائم، قادت هيئة تحرير الشام، والقوى المتحالفة معها في إدارة العمليات العسكرية، معركة تحرير مدهشة أوصلتنا جميعاً إلى دمشق، ثمّ صدرت منهم مقاربات تقول بمجملها إن الثورة قد انتهت، وإننا الآن في مرحلة بناء الدولة، وهذا جيّد في المجمل، ومنطقي. وأيضاً، قالوا إنهم يريدون أن نبني نموذجاً خاصّاً بنا، وهذا موضوعٌ مهم، ويبدو أن هذا توجّهٌ عام على المستويات كلّها عندهم، وفيه قرار مركزي في القيادة الجديدة، يبدو واضحاً في تحليل خطاب القياديين والمسؤولين الجُدد، وهذا أيضاً (بتقديرات كاتب هذه السطور) حميدٌ وجيّد، لكنّه يحتاج إلى إبداع منقطع النظير، وعقولٍ جديدة غير التي تعوّدنا عليها في مسير المعارضة السورية السياسي، وغير الفكر الأيديولوجي في قيادة دفّة السياسة، وبناء السردية الوطنية بعمومها.

ثمّة إرهاصات تفكير إيجابية في هذا السياق، ومنها، مثلاً، أن المحاصصة مبدأ مرفوض، وأن الشعب ينبغي أن “يُترَك على فطرته”، كما قال الشرع في مقابلة مع إحدى القنوات العربية. وعبّرت القيادة الجديدة أيضاً عن نيّتها بناء مناخ حيادي، وهذا المناخ الحيادي، إضافةً إلى المناخ الآمن، ضروري جدّاً للبناء الجديد بطبيعة الحال. أيضاً، ثمّة مناخُ حرّيةٍ سياسية، ومناخٌ من الودّ في دمشق مثلاً بين العسكر والشارع، وابتسامات يوزّعها العسكر (المنتشرون بحدودٍ) قليلة على المارّة، وعلاقة ودّية تشعر المرء بالتغيير حقيقةً. وفي هذا المناخ العام، قدّمت القيادة الجديدة مصطلح “مؤتمر الحوار الوطني”، وبدأت النقاشات تحت هذا العنوان العريض، الذي أتى سريعاً، وبدأت التسريبات بشأنه تنتشر سريعاً. أهم ما نعرفه رسمياً خارج هذه التسريبات نيّة حلّ هيئة تحرير الشام في هذا المؤتمر، وأنه سيتّخذ مجموعةً من القرارات، مثل حلّ بعض المؤسّسات، لأن الإدارة الجديدة لا تريد أن تأخذ هذه القرارات منفردةً.
أما في مبدأ الحوار نفسه، فكانت فكرة الحوار حاضرةً في الأدبيات السورية قبل سقوط النظام، بوصفها عناوين تقليدية تفتقد الدقّة، مثل الحوار الإسلامي العلماني، أو الحوار العربي الكردي، أو الحوار مع النظام… وما إلى ذلك من حوارات بين أطراف لم تنتج شيئاً إلا التمترس الأيديولوجي، ولا يبدو أن هذه الخلفية الذهنية تغيّرت، فالتفكير في الحوار لا يزال هكذا، أي أن الكلمة لا تزال تفترض “ذاتاً” و”آخر”. وانطلاقاً من هذا المبدأ يحقّ القول إن الحوار اليوم فكرة تتنافس سياسياً مع فكرة “الشعب السوري واحد”، التي صارت اليوم حقيقةً وواقعاً، على الأقلّ في ساحات الوطن الكبرى، وعلى مستوى المزاج الشعبي العام. والواحد لا يتحاور، لكنّه يؤسّس، ويدبر الاختلاف ضمنه، ويعتزّ به، لذلك قد تكون فكرة التأسيس أكثر ملاءمة للواقع؛ فنقول: “المؤتمر الوطني التأسيسي”، وليس “مؤتمر الحوار الوطني”. ليس تغيير هذا الاسم مسألةً لغويةً، بل تغيير المقاربة كلّها لتلائم التوجّهات الإبداعية التي تتحدّث عنها الإدارة الجديدة على المستوى النظري.
التأسيسُ إبداع، ومن ثمّ يتضمّن التأسيس تمثيل أفكارٍ وثقافات وليس تمثيل جماعاتٍ أيديولوجية أو طائفية أو مناطقية. وهذا يعني أن نأخذ نَفَساً قليلًا، نفكّر، نتجمّع حول فِكَرٍ سياسية، نجهّز أنفسنا لتطوير هذه الفِكَر بالتشارك مع الفِكَر الأخرى، نجترح الجديد بصورة تعاونية، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى وقتٍ وأمنٍ، حبذا لو أن الإدارة الجديدة تستمر في ضمان وجودهما.
أما بشأن الأقليات والأكثرية والوحدة السياسية، فنطلق هنا حكماً يعرفه جيّداً من يعرف تاريخ سورية وحاضرها، وهو أن السُنّة في سورية لم يكونوا يوماً طائفةً، بل كانوا حاضنةَ مشروعٍ وطني. وهذا حكمٌ مهم، ولو اتسعت مساحة هذا المقال للسرد التاريخي لكان لنا في ذلك براهين كثيرة. وعليه، يأتي المعنى السياسي للسُنّة في هذا السياق “حاضنة المشروع السوري الوطني”. وعلى ذلك؛ معنى مصطلح الأقلّيات كما يُتداول غير صحيح، وغير ملائم للمرحلة، وثمّة واجبٌ وطني هو أن نقول إن هذه المقاربة للأقلّيات بوصفهم طوائف قليلة العدد قد سقطت مع النظام، ومن ثمّ سقطت معها المصطلحات المرتبطة بها، ومنها طمأنة الأقليات وحماية الأقلّيات ومشاركتها واستيعابها… وما إلى ذلك من مصطلحات تُفرِّق ولا تجمع، وتفصل ولا توصل. العنوان اليوم هو “الوحدة السياسية”، والأقلّيات السياسية لا تكون إلّا عندما تتبلور هذه الوحدة فحسب، ولا تكون على أساس انتماء طائفي، أو أيّ انتماء غير سياسي، وتثبيت هذا النهج أجدى وأنفع.

وثمّة هنا نقطة ضرورية تتعلّق فعلاً بالضمير “نحن” في أثناء صياغة الخطاب السياسي، أو الضمير المتّصل “نا”. فمثلاً عندما نقول “نحن نريد أن ندير منطقتنا بكوادرنا”، “نحن نتمهّل في التعامل مع الوضع الجديد”، “نحن مع سورية”، “نحن يدنا بيدكم”، نحن لن نسلم سلاحنا”، أو “سلاحنا مثل قمحنا”، وما إلى ذلك من هذا القبيل، فلنا أن نطرح السؤال عن المعنى السياسي الوطني لهذه الـ”نحن”، وهذه الـ”نا”، خارج معنى نحن الطائفة أو القبيلة. ليس لهما أيّ معنىً سياسي، لأن المعنى الوحيد للجماعة سياسياً هو الجماعة السورية، والـ”نحن” في السياسة اليوم تعني نحن السوريين كلّنا، وغير ذلك كلامٌ لم ينضج فيرتقي إلى مستوى الفرصة التاريخية التي بين أيدينا.
من يحتاج إلى التطمينات والضمانات ليست الأقلّيات، وليست الدول، ولكن إن كان لهذا المصطلح دلالة فهي أن تضمن هيئة تحرير الشام، والقوى التي تشاركها السلطة اليوم، للشعب السوري، وتطمئنه في ثلاث مسائل. أولاها أنها لن تتقاتل فيما بينها في المستقبل، فتجرّ البلاد إلى الفوضى والحرب من جديد. وثانيتها أنها لن تقمع الشعب إذا أبدى رأياً معاكساً، حتى ولو كان متطرّفاً برأيها، ما دام سلمياً وضمن حدود الرأي الذي ينطلق صاحبه من رؤيته لبناء الوطن، وأن يبقى الفصل في هذه المسائل ديمقراطياً وبموجب مناخ الحرّية القائم. وثالثة تلك المسائل أنها لن تُقدِم منفردةً في اتخاذ قراراتٍ كُبرى يصعب التراجع عنها لاحقاً، مثل الدستور الدائم للبلاد. ومع أن الإيجابيات كثيرة إلّا أن الإدارة لا تزال في حاجة إلى عملٍ يُطمئِن السوريين أكثر، ومن ثمّ يتعاونون أكثر بما ينعكس أيجاباً على الجميع؛ فالسلطة الجديدة في حاجة إلى ثقة السوريين لكي تخدمهم داخلياً، ولكي تكون قويةً خارجياً، وفي كيفية ذلك حديث يطول بطبيعة الحال.

المصدر العربي الجديد

اترك رد

عاجل