عن الطغيان الذي زال وسوريا التي نريد

عبد الجبار العكيدي25 ديسمبر 2024آخر تحديث :
عن الطغيان الذي زال وسوريا التي نريد
العقيد عبد الجبار العكيدي

قد يُجيز السوريون لأنفسهم أن يذهبوا بعيداً في التطلّع إلى المستقبل، ويتبادلوا نَخْبَ التفاؤل فيما بينهم، ليس ركوناً إلى مجرّد شعور بالنشوة الغامرة، ولا استسلاماً لطاقةٍ تخييلية مجانية تنقلهم على أجنحة الوهم من واقعٍ بائس إلى عالم افتراضي مزدهر، بل الأصح، هو إيمانهم بأن ما كان حلماً في آذار/مارس 2011، أصبح واقعاً ملموساً يدركونه بحواسّهم وعقولهم وليس أمنيةً تداعب رغباتهم.

فما حدث بين السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر والثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر، كان أمراً خارقاً لجميع التوقعات ومتجاوزاً لعموم التحليلات، ليس لأنه فعلٌ سحري عصيٌّ على الفهم، بل لأنه  مطابق للوعي المتجدّد القادر على مقاربة القضايا مقاربة تنبثق من الدقة في التشخيص والإخلاص في العمل والقدرة على مجابهة الحقائق بعيداً عن التنظيرات المُستعارة، والمقولات التي تحوّلت إلى موضة كلامية، ولكي تكون الأفكار أكثر وضوحاً وصراحةً، لقد أكدنا مراراً ومنذ سنوات خلت، على أن التعويل المطلق على تناقض المصالح الإقليمية والدولية داخل الجغرافيا السورية، ربما يهيئ مدخلاً مناسباً لاستعادة المبادرة الوطنية، ويتيح المجال لأصحاب الأرض والقضية أن ينظّموا صفوفهم ويرمّموا كياناتهم وأطرهم، ويصحّحوا مفاهيمهم، ومن ثم يعيدون الكرَّة من جديد، أمّا أن يكون أمر التحرّر والخلاص مرهوناً بالمطلق، بدور إقليمي أو مبادرة دولية، فذلك ضربٌ من الوهم الخالص، ولمعرفة مدى مصداقية ما نقول، يمكن الذهاب إلى أن الوقائع تؤكّد زوال الغطاء العسكري الروسي بنسبة كبيرة عن قوات الأسد في معركة ردع العدوان، وذلك بعيداً عن أسباب هذا الانكفاء التي ربما يضيق بها هذا المقال، كما تؤكّد الوقائع أن الحليف الإيراني وأذرعه المتنوعة كان ملجوماً عن المشاركة لأسباب ليست بعيدة عن عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر في غزة وتداعياتها في لبنان وإيران، كما يمكن الذهاب أيضاً إلى أن نظام الأسد بات حالةً موسومة بالعقم المزمن الذي أفضى به إلى التخشّب، فبات عبئاً ثقيلاً حتى على حلفائه ومواليه، ولكن جميع هذه العوامل الموضوعية والذاتية التي أسهمت في تردّي حالة الأسد وتشظّي بنيته العسكرية، ما كان لها أن تثمر لولا انبثاق مبادرة وطنية سورية استطاعت مقاربة الوضع الدولي والإقليمي بدقة، ومن ثم استطاعت استثماره، ليس من خلال مناشدات الدول واستجداء السفارات من أجل الضغط على نظام الأسد، بل من خلال فعل يتجسّد على الأرض ليكون نواةً جاذبة وقائدة في الوقت ذاته للإرادات الدولية، وهذا ما تمّ بالفعل، إذ من الصحيح أن نظام الأسد كان مترهّلاً جداً، وقوّاته تعاني من تفكّك ووهنٍ شديدين، ولكنه حتى لو كان هيكلاً كرتونياً، فإنه سيبقى منصوباً إن لم يجد من يبادر إلى تحطيمه، وهذا ما جسّدته معركة ردع العدوان خلال أحد عشر يوماً فقط.

سقوط نظام الأسد نتيجة مُنجزٍ عسكري ثوري لا يعني أن معركة ردع العدوان كانت أقرب إلى حركة عسكرية انقلابية، ولا يعني كذلك أنها مغامرة عسكرية حققت نجاحها عن طريق الصدفة، بل هي خلاصة لنضالات عظيمة لشعبٍ عظيم أبدى قدرةً قلّ نظيرها على العطاء وبذل التضحيات، لقد قاوم السوريون نظام الأسد بشطريه (الأب والأبن) طيلة عقود طويلة من الزمن، ولم تُثْنهم الوحشية ولا العنف الممنهج ولا السجون ولا استفحال القمع ولا شتى الممارسات الهمجية عن استمرارهم بالنضال والمطالبة بحقوقهم وتحرّرهم من الظلم، لقد عانوا كثيراً من  عنف النظام الأسدي في بداية الثمانينيات وشهدوا مجازره المروّعة في حلب وحماة وجسر الشغور، التي أودت بعشرات الآلاف من أرواح السوريين، لقد صبروا على جراحهم وتألموا على معتقليهم وداروا فواجعهم بصبر الأنبياء، حتى بات يظن الكثيرون أن إرادة السوريين قد سُحقت إلى الأبد، ولكن حين أبرقت ثورات الربيع العربي انتفضوا من جديد، وحين أوغل نظام الأسد في العنف لم يقصّروا في التضحيات والعطاء، فقضى من أبنائهم مليون شهيد، واعتقل من أبنائهم وبناتهم ومات تحت التعذيب مئات الآلاف، وصبروا على برد الخيام وحرّها، وعلى مرارة الغربة والتشرّد والتهجير، ولكنهم لم ييأسوا، وحين تحررت بلادهم على يد أبنائهم من الفصائل العسكرية، أشرقت عذاباتهم شوقاً إلى معانقة الحرية والتطلع إلى المستقبل الذي يتمنونه.

أمّا وقد تحرّرت سوريا من قبضة الظلم والطغيان، فقد انزاحت تلك الصخرة الجاثمة على صدورهم والمعيقة لانطلاقتهم، وبات عليهم الانطلاق إلى المستقبل لينهضوا ببلادهم التي تركها الأسد أكواماً من الخراب، ولعل هذه الانطلاقة التي يتطلع إليها جميع السوريين، لا يمكن اختزالها بزهوة البندقية بعد انتصارها، بل بتحوّل تلك البندقية من وسيلة لمقاومة الطغيان إلى أداة لحماية الإنسان والحفاظ على حياته وأمنه وحقوقه، كما ينبغي على من حمل البندقية وحرّر أهله ودياره أن يكلّل نضاله ونهجه الثوري بمسيرة جديدة قوامها بناء مؤسسات الدولة والدفاع عن الحقوق، والعمل تحت سلطة الدستور وما يتفرع عنه من قوانين. فالسلاح الذي حرر البلاد ينبغي أن يحتفظ بمهمته التحررية ولا يبقى مُشرعاً إلا للدفاع عن العباد والبلاد، مُفسحاً المجال لمسارات نضالية أخرى تحتاجها سوريا، ونعني بذلك التنمية بكل أشكالها، والتحديث الإداري والاقتصادي، والتأسيس لعلاقات طيبة مع المحيط العربي والإقليمي والدولي.

لا شك أن أمام السوريين استحقاقات كثيرة وصعبة، ولكنها لن تكون مستحيلة قياساً إلى ما أنجزوه من نصر عظيم، وكما كان انتصارهم بفعل مبادرة وطنية ثورية على يد أبنائهم، فلتكن نهضتهم أيضاً تعتمد على ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على المبادرة، فذلك هو ما يشجع العالم على الوقوف معهم ومساندتهم، ذلك ان العالم يُعجَب بالمبدع ويتعاطف مع القادر على الإنجاز، ويهمل الخامل والمُسترخي.      

المصدر المدن

اترك رد

عاجل