سقط نظام الأسد الاستبدادي، وهرب بشار الأسد إلى موسكو، وتحوّل لاجئاً فيها، فيما يقف حكّام سورية الجدد في المرحلة الراهنة أمام امتحان كبير، بعد أن توفرت لهم فرصة تاريخية لقيادة سورية الجديدة، وتشكيل هيئات الحكم الانتقالي التي ستضع الأساس لمستقبل سورية والسوريين. وبالنظر إلى حساسية مرحلة الانتقال، فإن نجاحهم مرهون بتقديمهم نقيضاً للنظام الأسدي الذي نهض على الأحادية والقمع السياسي والاجتماعي، واستغل التعدّد المذهبي والديني والقومي في سورية، كي يرسي نظاماً ديكتاتورياً، جثم على صدور السوريين عقوداً عديدة وثقيلة.
ينهض الامتحان الذي وضعت فيه السلطات الجديدة على مراقبة دولية لكل خطوة تقوم بها، والتحقق من مدى اتساقها مع أقوالها، التي تفيد بأنها ستنفذ وعودة الثورة السورية، وبما يعبر عن فرحة السوريين بسقوط نظام الاستبداد، وتبديد مخاوفهم من ممارساتٍ تناقض ما خرجوا من أجل الخلاص منه، ودفعوا أثماناً باهظة من أجله. لكن ما يدفع إلى الأمل بالتغيير نحو الأفضل هو الإشارات الإيجابية التي صدرت من القائد العام أحمد الشرع، واستجابة ملايين السوريين لدعوته النزول إلى الشوارع احتفالاً بانتصار الثورة، وسوى ذلك.
قد يكون نزول ملايين السوريين إلى شوارع المدن والبلدات السورية وبلدان الشتات والمهجر للاحتفال بسقوط نظام الأسد بمثابة شرعية شعبية منحت للسلطات الجديدة، لكنها مشروطة ومقرونة بتبديد مخاوفهم وبناء نموذج في الحكم يلبي حاجاتهم وطموحاتهم. إضافة إلى أن الحراك الديبلوماسي والسياسي بشأن الوضع في سورية وتوافد المسؤولين الإقليميين والدوليين إلى العاصمة دمشق، يمنح السلطات الجديدة نوعاً من الاعتراف الدولي، الذي هي محتاجة إليه في هذه الأوقات، لكنه مشروط بدوره، ومربوطٌ بتحقيق جملة من الشروط، التي تخص طبيعة الحكم وتمثيله وعلاقته مع الخارج.
هناك إجماع لدى عموم السوريين على أولوية العمل على تسيير شؤون الحياة، وعلى استقرار المرحلة الحالية، وحماية الإنجاز الذي تحقّق بإسقاط نظام الأسد
هناك إجماع لدى عموم السوريين على أولوية العمل على تسيير شؤون الحياة، وعلى استقرار المرحلة الحالية، وحماية الإنجاز الذي تحقّق بإسقاط نظام الأسد، مع تأكيد أهمية النقاش بشأن المرحلة الانتقالية المقبلة التي ستشكل مستقبل سورية الجديدة. وارتفعت أصوات سياسية في ظل معطيات المرحلة الراهنة، تطالب بضرورة مشاركة جميع القوى والفعاليات السياسية والاجتماعية في رسم ملامح المرحلة الانتقالية في بلادهم، ويتخوّف أصحابها من أن تنفرد الفصائل العسكرية بمفاصل صنع القرار، وتقصي باقي المكونات السياسية والمدنية، فيما يتشكل فهم لدى سوريين كثيرين أن مستقبل بلدهم بات بين أيديهم. لذلك عليهم حسن التصرف، وتحمّل المسؤولية، وعدم الارتهان أو الرضوخ إلى الحسابات الخاطئة والمصالح الضيقة، والشروع بصياغة النظام الجديد على أساس أن الوطن يتسع للجميع في دولة المواطنة والقانون. ولذلك بدأت الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني جامع، يؤسّس لجمهورية سورية جديدة، تلقى آذاناً صاغية لدى السلطات الجديدة، ولدى قوى سياسية واجتماعية عديدة، بعيداً عن دعوات الحوار الوطني التي أطلقتها الاجسام السياسية القائمة، وكرّسها الواقع السابق، سواء كسلطات أمر واقع، فرضت سيطرتها على مناطق في سورية بالقوة وبالاستعانة بالقوى الأجنبية، أم كهيئات مدعومة من دول أجنبية وتنفذ أجندات أجهزتها، وأضحت فاقدةً قرارها السوري المستقل. لكن ذلك لا يعني استبعاد أفرادها من المشاركة في المؤتمر الوطني، إنما استبعاد أي احتمالات لكي تقود الحوار بين السوريين، أو أن تهيمن أي قوة حزبية أو فصائلية على المؤتمر.
أهمية عقد مؤتمر وطني ليست في إنتاج إدارة وطنية تمثل كل أطياف الشعب السوري وحسب، بل في أنه مؤتمرٌ من أجل إنقاذ سورية. وقد سبق للسوريين أن تحاوروا عبر مجالس منتخبة وتمثيلية بعد جلاء القوات الفرنسية عن أراضيهم وإعلان الاستقلال، وأفضى الحوار الاجتماعي والسياسي بينهم إلى تجربة ديمقراطية برلمانية مشهودة، وشكّلت علامة في التاريخ السوري، بالرغم من مآخذ عليها.
لا يحتمل الوضع في سورية التأخير أو التريّث طويلاً، لأن الأولويات كثيرة جداً، وكذلك المتطلبات، خاصة توفير الأمن والاستقرار
يُفترض بالمؤتمر المنشود أن يكون جامعاً لكل أبناء المحافظات السورية، وكل المكونات الدينية والقومية، ولا يستثني أياً من مكونات المجتمع السوري. لذلك يستحقّ تحضيراً جيداً ودقيقاً، عبر البحث عن طريقة يختار فيها السوريون أعضاءه بواسطة هيئاتٍ ناخبة في كل محافظة سورية، وتمثل فيها جميع القرى والبلدات والمناطق والمدن. ومن الضروري أن تنبثق عنه هيئة حكم انتقالي، أو حكومة انتقالية، أو ربما حكومة تكنوقراط، وأن يعلن إيقاف العمل بدستور 2012 الذي فُصّل على مقاس بشّار الأسد، وتشكيل لجان وهيئات دستورية وسياسية، من أصحاب الخبرة والاختصاص، بغية وضع إعلان دستوري مؤقت، أو اعتماد دستور مؤقت للمرحلة الانتقالية، يمكنه أن يوفّر مساحة للنقاش وتبادل الآراء بين السوريين. والحديث هنا يخص إمكانية اعتماد دستور 1950، الذي يعتبر الدستور الأول بعد الاستقلال، وصاغه مجلس تأسيسي منتخب، بانتظار صياغة مسودة دستور سوري جديد تعرض على الاستفتاء الشعبي، ويتم فيه تحديد كل المسائل المتعلقة بطبيعة الحكم، والعلاقة بين السلطات، وتحديد مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية التي يجب ألا تكون مستعجلة، بل تسبقها مرحلة انتقالية محدّدة بسنة أو أكثر قليلاً.
لا يحتمل الوضع في سورية التأخير أو التريّث طويلاً، لأن الأولويات كثيرة جداً، وكذلك المتطلبات، خاصة توفير الأمن والاستقرار وتأمين حاجات الناس، وبذل جهود كبيرة للعمل على تمتين النسيج الاجتماعي الداخلي المتهتك، والعمل على تطوير الاقتصاد. إضافة إلى رفع العقوبات الأميركية والأوروبية على سورية، وإعادة إعمار ما هدمه نظام الأسد. ولن يفيد السوريين التعويلُ على قوى الخارج، لأن لا أحد منها يعير أي اهتمام لحالة سورية المنهكة والمدمّرة، وحاجتها إلى مدّ يد العون والمساعدة في إعادة بناء دولة جديدة. لذلك سيتيح عقد مؤتمر وطني المجال أمام جميع القوى الحية في المجتمع السوري من أجل المساهمة في التشييد، وفتح الفضاء العام أمامهما للنقاش وتدارس أوضاعهم، والتعاون لإيجاد الحلول المطلوبة.