بعد تضحيات استمرّت 14 عاماً، وكلفت مئات آلاف الشهداء وملايين النازحين والمهجرين، طوى السوريون، من دون تدخل أجنبي، صفحة مظلمة في تاريخهم، وأظهروا، فوق ذلك، الوجه الحضاري المتسامح لبلادهم من خلال ابتعادهم عن عقلية الثأر والانتقام، التي ظلّ بعضهم يخوّف منها، وأسهمت في تأخير سقوط النظام.
بعد أن يأخذ السوريون وقتهم في التعبير عن فرحتهم واستيعاب حقيقة أن الأسد ونظامه خرجا من حياتهم مرّة واحدة وإلى الأبد، وهي مرحلةٌ يجب ألّا تطول، عليهم أن يتفرّغوا لترتيب المرحلة الانتقالية، الأكثر خطورة، التي تنتظرهم. وانطلاقاً من ضخامة التحدّيات التي تواجه سورية في المرحلة المقبلة، ووجود كثيرين يتربّصون بها ويعملون على إفشالها، بل إنهاكها وصولاً إلى تفكيكها، وهو هدف الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة منذ لحظة سقوط الأسد، ينبغي لجميع السوريين المبادرة والإسهام بكل ما يساعد في تحقيق الانتقال السلمي السلس نحو الأمان والازدهار والسيادة والاستقرار، وهذا لا يتم إلا من خلال تحديد الأولويات واستباق التحدّيات التي يتوقع ظهورها سريعاً خلال الفترة المقبلة.
هناك حاجة أولاً إلى فرض الأمن وضبط الفوضى، ووقف التعدّيات على الممتلكات العامة والخاصة، ووقف نهب ثكنات الجيش ومستودعات سلاحه، ووضع خطة واضحة لسحب السلاح من أيدي الأفراد والجماعات المسلحة، وحصره في يد أجهزة الدولة الرسمية، لأن هذا يقطع الطريق على أي محاولاتٍ لتعكير السلم الأهلي، أو توجّه قوى خارجية لدعم فصائل معيّنة (النموذج الليبي). وهذا يتطلب الإسراع في إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الشرطية التابعة لوزارة الداخلية وتفعيل عملها. كما يجب ضبط القيادات الأمنية والعسكرية العليا في النظام السابق، منعاً لتنظيمها ثورة مضادّة. ويمكن لاحقاً وضع أسس لنظام عدالة انتقالية، تتم فيه محاسبة هؤلاء عن الجرائم التي ارتكبوها.
ثانياً، المسارعة إلى إعادة تفعيل عمل مؤسّسات الدولة وأجهزتها المختلفة، من وزارت ودوائر خدمات، وتشجيع الناس على العودة إلى حياتهم الطبيعية في أسرع وقت ممكن، واستعادة النشاط الاقتصادي العام والخاص في أنحاء البلاد.
ثالثاً، ضرورة أن تتفق القوى السياسية السورية سريعاً على إدارة المرحلة الانتقالية وشكلها، منعاً لأي فراغ في السلطة. وإذ تحاول إدارة الشؤون السياسية التابعة لفصائل المعارضة حالياً تشكيل حكومة انتقالية، عليها أن تتوخّى الحذر في عدم الظهور بمظهر من يحاول الاستئثار بالسلطة. إن أخطر من يمكن أن تواجهه الدول في الفترات الانتقالية هو الانقسام والصراع بين القوى التي أطاحت النظام القديم. وبحسب علمي ومعرفتي، لم تسلم ثورة في العالم من هذه الصراعات، وبعضها سبّب عودة النظام القديم. من هنا تأتي أهمية إشراك الجميع في مشاورات تشكيل الحكومة وإشعارهم بأنهم جزء من المستقبل. ولأن سورية دولة متعدّدة ومتنوّعة لجهة التوجّهات السياسية والمكونات الاجتماعية يجب أن تكون الحكومة الانتقالية تمثيليةً لأوسع طيف ممكن من الفضاء السياسي السوري، وأن تشمل كل الجغرافيا السورية إذا أمكن. ويجب التعامل مع الحكومة في هذه المرحلة باعتبارها واجهة مدنية للسلطة السياسة في سورية، مع الحرص على أن تضم وجوهاً مقبولة لدى المجتمع الدولي، والابتعاد ما أمكن عن الشخصيات التي قد تكون إشكالية. وينبغي لهذه الحكومة بعد تشكيلها أن تضع برنامجاً متكاملاً للمرحلة الانتقالية يتضمّن تشكيل جمعية تأسيسية، مهمّتها وضع دستور للبلاد خلال فترة محدّدة، تجري على أساسه انتخابات بحسب نوع النظام السياسي الذي يتم الاتفاق عليه.
تبيّن من تجارب إخوتنا في دول الربيع العربي، أن الثورات ترفع بانتصارها التوقعات، ولأن كسب ثقة الناس يعدّ أساسياً لنجاح المراحل الانتقالية، لا بد أن يلمس الناس تغييراً سريعاً في حياتهم، وهذا لا يتم إلا من خلال حلحلة الأزمات المعيشية المرتبطة بحياتهم اليومية، بما يشمل توفير المواد الغذائية والسلع الأساسية، والوقود، والمواصلات، والاتصالات، والكهرباء، والماء. وينبغي التنويه أيضاً إلى ضرورة عدم التدخّل في حياة الناس الشخصية وسلوكاتهم الفردية، ما لم تتعارض مع الذوق العام، وكذلك عدم فرض توجّه سياسي وثقافي معين عليهم، فالمجتمع السوري منفتح، متعدّد الأديان والثقافات، ولا يمكن أن يتحوّل تحت أي ظرف إلى أفغانستان. محاولة القيام بذلك سوف تدفع الناس إلى الانفضاض عن الحكم الجديد، وهذا يعني المخاطرة بتكرار تجربة مصر 2013.