إذا أردت أن تعرف معنى سقوط حلب بيد فصائل المعارضة في سياقات متعدّدة، فما عليك سوى مراقبة الارتدادات التي خلفتها، وتوحي وكأن العالم قد قامت قيامته. يمكنك بسهولة، مثلاً، ملاحظة سرعة بروز استقطاب إقليمي وعالمي حول المسألة، وتلمّس اصطفافات جديدة بشأنها، تختصرها محاولات بعضهم تشبيه سقوط المدينة الأكثر أهمية في سورية، بعد العاصمة دمشق، بسقوط الموصل، ثاني مدن العراق، عام 2014 بيد تنظيم الدولة الإسلامية، في محاولة للإيحاء بأن فصائل متشدّدة سيطرت على المدينة، وأن تحالفاً دولياً شبيها يجب أن يتشكل لمواجهتها. يعتبرها آخرون “7 أكتوبر السورية”، في إشارة الى عملية طوفان الأقصى التي شنّتها حركة حماس العام الماضي، وصدمت إسرائيل، والعالم، كما تسبّب سقوط حلب السريع بصدمة لإيران وروسيا. لكن، وبغض النظر عما يعتقده كل طرفٍ، ويهدف إليه من وراء تشبيهاته واستعاراته، برزت حلب هذه الأيام وكأنها محور السياسة العالمية، وذروة معركةٍ بدأت قبل عقدين، مع الغزو الأميركي للعراق، لإعادة تشكيل خريطة الإقليم ومصيره، وسط أحد أعقد الصراعات وأخطرها في العالم. هذا كفيل أن يفسر لك تحديداً الاستنفار الذي حصل في عواصم المنطقة والعالم نتيجة زلزال حلب 2024 الذي امتدّت ارتداداته من بكين إلى واشنطن، مروراً بموسكو وطهران، والرياض، وأبوظبي، والقاهرة، وبروكسل.
لا شك أن الظروف الإقليمية والدولية التي برزت في الأعوام الثلاثة الأخيرة، ابتداءً بحرب أوكرانيا، ثم حربي غزّة ولبنان، كانت العامل الحاسم الذي سمح بكسر حال الجمود التي هيمنت على المشهد السوري منذ عام 2020، فسحب روسيا جزءاً كبيراً من قواتها من سورية وزجّها في أتون الحرب الأوكرانية، واضعاف إيران وحزب الله، وبقية المليشيات الشيعية العابرة للحدود، نتيجة الصراع مع إسرائيل، أحدثا حالة فراغ على الأرض، اغتنمتها فصائل المعارضة السورية لتغيير موازين القوى، ولتعكس في بضعة أيام كل نتائج الحرب التي فرضتها روسيا وإيران في سورية على امتداد عقد. ورغم أن هجوم فصائل المعارضة كان متوقّعاً منذ أسابيع، وكانت تحضيراته معلنة، إلا أن الانهيارات السريعة في صفوف قوات النظام تسبّبت في صدمة، وأثارت حالة من الذعر والاستنفار في عواصم الإقليم بحثاً عن تفسيرات، وإجابات عن سؤال: ما العمل؟ أخذت تتبلور سريعاً اصطفافات شهدنا بعض ملامحها في السنوات الأولى للثورة السورية، لكنها تبدو اليوم أكثر حدّة ووضوحاً. طوى النظام الرسمي العربي، بتأثير “فوبيا التغيير”، خلافاته سريعاً وارتصف وراء النظام السوري، وهو، في نهاية المطاف، جزءٌ منه، بذريعة الدفاع عن سيادة سورية والحفاظ على وحدتها واستقرارها، وكأن سورية كانت قبل سقوط حلب دولة مستقرّة وموحدة وذات سيادة!
بالمثل، استنفرت إيران وروسيا على الفور في مسعى إلى إنقاذ استثماراتهما السورية التي دفعتا أثماناً عظيمة فيها على مدى سنوات، وهما تلتقيان مع المعسكر العربي في إنقاذ النظام السوري، إنما تختلفان معه في تموضعه، فالعرب يريدون النظام بدون إيران، في حين تكافح إيران لإنقاذه لكونه جزءاً أساسياً من مشروعها الإقليمي، وحتى لا تخسر بسقوطه ساحة نفوذ أخرى أمام إسرائيل التي صارت الآن، عكس السنوات السابقة، طرفاً رئيساً في الصراع على سورية، بعد عملية طوفان الأقصى، وتبدو مصرّة على إرجاع إيران إلى داخل حدودها، وتتقاطع في ذلك مصالحها مع الطرف العربي.
تركيا، التي خرجت مستفيداً أكبر من حروب أوكرانيا وغزة ولبنان، تبرز طرفاً رئيساً، بل الطرف الرئيس في الصراع السوري، نتيجة ضعف منافسيها في موسكو وطهران، وافتقاد العرب أدوات التأثير على الأرض. من هذا الباب، يبدو الحراك العربي النشط هذه الأيام بلا تأثير، لأن غياب العرب عن الساحة السورية خلال السنوات الماضية وضعهم على الهامش. تبدو الولايات المتحدة في موقع من يسعى حاليّاً إلى تحقيق توافق بين مصالح حلفائها (العرب وتركيا وإسرائيل) في سورية، وما يجمع بينهم ضرورة إخراج إيران منها، وهو أمر بات على ما يبدو حتميّاً. كيف يحصل هذا؟ بمعركة كبرى تستنزف ما تبقى من طاقة السوريين ودمائهم، أم بحل سياسي؟ هذا شأن يقرّره كليّاً اليوم النظام في دمشق.