مذبحة حلب وسيرك بيروت

فريق التحرير5 أكتوبر 2016آخر تحديث :
مذبحة حلب وسيرك بيروت

الياس خوري* الياس خوري
تتخذ حلب شكل المذبحة المكتملة، فالمذبحة لا تكتمل إلا بالصمت، صمت يلفّ جثث الضحايا وسط أصوات القصف والركام. كل المذابح الكبرى تمت في الصمت، من عين الزيتون إلى دير ياسين وكفرقاسم وشاتيلا، وصولا إلى البوسنة. صمت مريب لا ينفجر صخباً إعلامياً إلا بعد اكتمال المذبحة، أو مرور الوقت الكافي كي تصير جزءا من الماضي.
حلب اليوم في المذبحة، الصمت الشامل مستحيل بسبب الصخب الذي رافق موجات النزوح السوري إلى أوروبا، لكنه يتخذ هنا شكلاً جديداً. فلقد تحولت حلب إلى خبر صغير في وسائل الإعلام العالمية، خبر لا يثير سوى الأسف، ويمرّ كأن الموت السوري صار من طبيعة الأشياء. أما ردود الفعل فلا تتعدى الكلام الذي سرعان ما يسقط في النسيان.
وكما يحاصرها صمت العالم، فإن حلب مُحاصَرة بصمت عربي مريب. فلقد تحوّل موت العرب إلى جزء من واقعهم اليومي. لا شيء يجري على صفحة الخراب العربي الشامل، لا شيء سوى صرخات متقطعة تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي. صار «الفيسبوك» وسيلة لفشّ الخلق، وأداة تعطي من يستخدمه شعورا بأنه أدّى واجبه، ويستطيع الآن الانصراف إلى شؤون حياته اليومية.
الحياة تستمر وسط جثث الناس التي تملأ شوارع المدينة المهدّمة. أجمل مدن المشرق العربي، شقيقة القدس في جماليات عمارتها، تذبح أمامنا، ونحن عاجزون أمام آلة حربية روسية – إيرانية تفتعل بنا، وتبيد أرواحنا.
حلب تموت، وأسياد العالم العربي يتابعون ألعابهم في سيرك عربي مفتوح على اللامعقول. وكان آخر مشاهد هذا السيرك هو جنازة شمعون بيريس في القدس المحتلة. كل زعماء العالم «الحر» اجتمعوا لوداع أبي القنبلة النووية الإسرائيلية بصفته صانع سلام! حتى قيادة السلطة الفلسطينية ذهبت إلى المأتم كي تودّع أوهام السلام مع محتلّ لا يريد من السلام سوى ما هو أفدح من الاستسلام، يريد من ضحيته أن تختفي كي تكتمل إبادتها السياسية والثقافية بالصمت.
زعماء العالم، ومن بينهم قادة عرب، لم يسمعوا وهم في المدينة المحتلة أنين الضحية الفلسطينية الذي اكتملت حكايتها مع الصمت الذي يلفّ مدينة المتنبي، وهي تحت مبضع الجلّاد.
غير أن السيرك العربي يتخذ شكله الأكثر فجاجة ووقاحة في بيروت. فعلى بعد كيلومترات قليلة من عاصمة لبنان تدور مذبحة كبرى يشارك فيها مقاتلون لبنانيون ينتمون إلى حزب الله. وبدل أن تطرح بيروت السؤال الأخلاقي والسياسي عن مسؤوليتها في هذه المجزرة، تنشغل الحياة السياسية اللبنانية بسيرك انتخاب رئيس الجمهورية، الذي دخل منعطفاً سوريالياً بعد تبني تيار المستقبل ترشيح الجنرال عون، لنكتشف أن من يعارض هذا الترشيح هو الثنائية الشيعية بقيادة المايسترو نبيه برّي، زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب.
بدلا من أن يطرح اللبنانيون على أنفسهم مهمة إخراج المقاتلين اللبنانيين من المذبحة السورية، قامت القوى السياسية اللبنانية بتنصيب حزب الله، الذي يقاتل في حلب، حَكَماً. حزب الله يؤيد عون، لكن نوابه سيتضامنون مع بري في مقاطعة جلسة الانتخاب! حكاية غرائبية انتهت إلى معادلة عنجر، حيث كان ضابط المخابرات السورية وحاكم لبنان الفعلي، غازي كنعان، يعزف البيانو بيدين، الأولى تدعم رفيق الحريري والثانية تدعم خصومه. نجح حزب الله في أن يكون له مرشحَان للرئاسة: سليمان فرنجية وميشال عون، وحليفان بالواسطة: القوات اللبنانية وسعد الحريري. وهو الحَكَم الذي يقرر زمن الانتخاب. يعزف باليمنى لحن عون، ويعزف باليسرى لحن برّي، ويترك للاعبين حرية الرقص على الحبال في سيرك دموي ساحته الرئيسية سوريا، أما لبنان فمجرد ساحة خلفية مؤجلة.
حزب الله ليس مسؤولا عن شيوع ثقافة السيرك في لبنان، بل يقوم باستخدام، لا يخلو من التذاكي، لمناخات الرقص البهلواني الذي تجيده القيادات السياسية للطوائف اللبنانية، وهو يستخدم مأزق سعد الحريري الذي أوصله حلفاؤه السعوديون إلى حافة الإفلاس، كما يستخدم مشاكل الجنرال عون النفسية مع قصر بعبدا ومناخات الخوف الآتية من سوريا والعراق، من أجل الهيمنة على السيرك وتشغيل اللاعبين، مستندا إلى امتلاكه قوة عسكرية لا يوجد ما يوازيها في لبنان.
السيرك اللبناني، الذي فقد ضوابطه بعد انهيار التسوية السورية – السعودية التي انتجت الطائف عبر اغتيال رفيق الحريري، وصل إلى انسداد سياسي شامل عبر الاستقطاب السني – الشيعي، والصراع الايراني- السعودي، يدخل اليوم منعطفا جديدا ومؤقتا، سمته البارزة هو الانكفاء السعودي- الأمريكي، وهذا يوحي وكأن حزب الله قد استفرد بالساحة اللبنانية، ما يعطيه القدرة على حمل عصا المروّض، من أجل الوصول إلى السلة المتكاملة، التي تعني بداية زمن الغلبة الشيعية، التي يصير معها انتخاب الرئيس مجرد إجراء شكلي لا معنى له.
لكن هذا الإيحاء ليس سوى شراء للمؤقت بالمؤقت، فأزمة الطبقة الحاكمة اللبنانية تكوينية، ولم تعد الطائفية السياسية قادرة على إنتاج نصاب حاكم مهما بلغت قوة أحد أطرافها، وهذا يعني أن الفراغ السياسي قد يستمر طويلا، ويطيح بالأحلام الرئاسية التي تراود البعض.
سيرك مستمر ومذبحة مستمرة، والحقيقة المؤلمة هي أن المذبحة تحتاج إلى سيرك يغطّيها، كما أن السيرك لا يكتسب شرعيته وصدقيته سوى من المذبحة.
نهرب من المذبحة إلى السيرك، لنكتشف أن المروّض ليس منشغلا بتدريب اللاعبين أو ترويضهم، فهو لا يحمل بيده عصا المروّض، بل يحمل بندقية رشاشة، وبرميلاً متفجّراً، وهو يلهو هنا ويقاتل هناك.
نهرب لنكتشف أننا أسرى العجز، لكننا لا نزال نستطيع أن نقول لا في وجه أسياد هذه اللحظة المنقلبة التي لن تقوى على تحطيم بلاد تناوب عليها عشرات الغزاة والبرابرة، من دون أن ينجحوا في إخراجها من الخريطة.

* نقلاً عن: “القدس العربي”

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل