لعل أسوأ الأسرار التي يخفيها النظام السوري هو استغلاله للقضية الفلسطينية. ففي بداية الصراع بين إسرائيل وحماس في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وبينما كان البعض يشكك في انضمامه للحرب ضد إسرائيل وفتح جبهة أخرى، لم يكن أي من السوريين يعتقد أن بشار الأسد سوف يصبح طرفاً في الصراع ــ وخاصة ليس بالنيابة عن حماس.
يقول بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق، والذي يعيش في واشنطن العاصمة منذ انشقاقه: “إن النظام يصور نفسه وكأنه يحارب إسرائيل، ولكن هذا كان دائماً كذبة. لقد عقد بشار، ووالده من قبله، اتفاقاً صامتاً للحفاظ على السلام على الحدود مع إسرائيل، ولهذا السبب لن تتورط سوريا في الصراع في غزة”.
وقد لاقت هذه النظرة صدى بين مئات السوريين والفلسطينيين الذين تحدثنا معهم على مر السنين. فبالنسبة للنظام، تعمل إسرائيل في الغالب كهدف للعلاقات العامة ــ كبش فداء سهل يمكن إلقاء اللوم عليه في إخفاقاته، ومحاولة كسب ود سكانها السنة والعرب في مختلف أنحاء المنطقة.
وعندما اشتعل الصراع بين إسرائيل وحماس في الماضي، شجع النظام السوري الاحتجاجات الكبرى لإظهار الدعم للفلسطينيين، ولكن هذه المرة كانت المظاهرات قليلة ومتباعدة، وكان الدعم للمقاومة خافتاً.
ويتابع بربندي: “لم يسمح النظام بأي احتجاجات كبرى ضد إسرائيل، ولم تطلق أي دعوات لدعم الأشقاء في محور المقاومة”، مضيفاً أن هذا “يُعَد علامة” على أن النظام السوري لا يريد فقط البقاء بعيداً عن الصراع، بل يريد أيضاً أن يُرى موقفه بوضوح في ابتعاده عنه.
وعلى الرغم من القصف الإسرائيلي المتكرر على الأراضي السورية ــ والذي يستهدف معظمه مسؤولين وأصول إيرانية ــ وتعهد النظام بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين، إلا أن حكومة الأسد بقيت على الهامش منذ اندلاع الصراع الحالي قبل أكثر من عام.
ويقول الخبراء والمراقبون إن أولوية الأسد هي الحفاظ على نظامه وحكمه لشعب سوريا المحروم. ورغم أنه تمكن من قمع الثورة، إلا أن البلاد لا تزال منقسمة، وحوالي 40% من الأراضي السورية لا تزال خارج سيطرته.
ووفقاً لدبلوماسي غربي لم يكشف عن اسمه تحدث لوكالة فرانس برس، فقد حذرت إسرائيل حكومة الأسد من أنها “ستدمر نظامه إذا استُخدِمت سوريا ضدها”. وأشار تقرير إلى أن منزل شقيق الأسد قد تعرض للقصف من قبل الإسرائيليين، رغم عدم وجود تأكيد رسمي.
يقول إران ليرمان، نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق: “إذا ارتكب الأسد خطأ الانضمام إلى المحور، فإن العواقب قد تكون سريعة للغاية”. مضيفاً “في الوقت الحالي، أعتقد أن الأسد متردد جداً في الانجرار إلى هذا المحور. ورغم أن [النظام السوري] قومي عربي، فإن فلسطين تأتي في آخر أولوياتها. وأولها، البقاء على قيد الحياة، وأعتقد أن جيش الأسد لديه فكرة عن كيفية أدائه مقارنة بجيشنا”.
هناك أسباب أخرى عديدة تدفع الأسد إلى البقاء بعيداً عن الصراع. فهو يأمل أن يُكافأ على ضبط النفس، وأن يخفف على الأقل من حدة الغرب تجاه إمكانية تخفيف العقوبات، في حين يضع نفسه إلى جانب الإمارات العربية المتحدة ــ وهي لاعب رئيسي في إعادة تأهيل حكومة الأسد، التي بدورها طبَّعت العلاقات مع إسرائيل بموجب اتفاقيات أبراهام. وفي غضون أيام من هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أفاد موقع أكسيوس أن الإمارات حذرت الأسد من التورط في الحرب.
وعلاوة على ذلك، فإن الأسد ليس في مزاج يسمح له بمسامحة حماس على انحيازها إلى الثوار السوريين خلال 2011-2012 من الثورة. فعندما اغتالت إسرائيل إسماعيل هنية داخل إيران، لم يقم النظام تأبيناً مفصلاً لزعيم حماس على الرغم من أنها أعادت علاقاتها رسمياً مع الحركة في عام 2022. وفي مقابلة العام الماضي، قال الأسد إنه “من المبكر جداً أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه” مع حماس. ومن المفترض أن هذا يعمل لصالح الأنظمة الملكية العربية مثل السعودية والإمارات، اللتين يعتمد عليهما الأسد لتمويل إعادة إعمار سوريا. والتي تفضل أن ترى حماس مهزومة ومواجهة التحدي الذي يفرضه الإسلام السياسي.
ويأمل الأسد أن يتمكن من تحقيق مكاسب من الغرب، وخاصة مع تنامي الرغبة في ترحيل السوريين في أوروبا. وتسعى ثماني دول أوروبية بقيادة إيطاليا إلى إقامة نوع من التعاون مع دمشق لضمان عودة السوريين إلى بلادهم. كما أن المفوضية الأوروبية تدرس الآن ما إذا كان ينبغي لها أن ترشح مبعوثاً خاصاً جديداً إلى سوريا يجعل حكومة الأسد مقبولة إلى حد ما. وقد عاد الأسد بالفعل إلى جامعة الدول العربية واحتضنته كل الدول في المنطقة، باستثناء قطر.
وبينما لا يستطيع الأسد طرد الإيرانيين بشكل مباشر ويظهر وكأنه جاحداً للدعم الذي قدموه لحكومته خلال الحرب، إلا أن إسرائيل تتمتع بحرية التصرف في قصف الأصول الإيرانية واغتيال جنرالاتها داخل سوريا. وقال ليرمان: “لقد توصلنا إلى تفاهم مع روسيا بأننا سنفعل ما يتعين علينا فعله” في الأجواء السورية. وتشير بعض التقارير إلى أن إيران سحبت قواتها من جنوب سوريا – مركز الوكلاء الإيرانيين الذين يشكل حزب الله معظمهم- لتقليص خسائرها مع عودة القوات الروسية إلى المنطقة “من الناحية النظرية، للحد من امتداد العنف من إسرائيل إلى سوريا”. وقد أقيمت نقاط روسية بعد اغتيال إسرائيل جنرالات إيرانيين بارزين في سوريا في أبريل/نيسان، مما أثار مخاوف من امتداد الحرب إلى سوريا. (إن تضاؤل الوجود الإيراني في سوريا هو بمثابة مكسب غير متوقع للراعي الروسي للأسد، التي لا ترغب في تقاسم سوريا مع طهران).
وقال بربندي إن روسيا قد تغض النظر أيضا عن الهجمات الإسرائيلية على الميليشيات الإيرانية في جنوب سوريا كما فعلت بانتهاكاتها الأجواء السورية.
تابع بربندي “عندما بدأ حزب الله بالتوجه إلى الجولان لمهاجمة إسرائيل، كانت رسالة الأسد هي: “أنا ليست لي سلطة عليهم”، وأن الجيش السوري لن يشارك”، وأضاف موضحاً سبب نشر الروس على خط المواجهة مع إسرائيل. “لكن تطهير الجنوب من حزب الله أمر جيد لإسرائيل، ولروسيا لأن إيران ستكون أضعف. وبمجرد انتهاء الإسرائيليين من مهامهم، يمكن أن تكون روسيا الضامن لمغادرتهم الأراضي السورية”.
لقد وضع الأسد نفسه في موقف جعل من إيران وحزب الله يبقيانه بعيداً عن الحرب. ويقول الخبراء إن إيران لا تستطيع ممارسة نفوذها على سوريا إلا إذا نجت الحكومة الحالية. وحتى زعيم حزب الله حسن نصر الله أعطى الأسد مخرجاً سهلاً خلال إحدى خطبه الأولى في الصراع.
فقد قال نصر الله في نوفمبر/تشرين الثاني 2023: “لا نستطيع أن نطلب من سوريا أكثر من ذلك، ويجب أن نكون واقعيين. لقد تورطت البلاد في حرب كونية منذ 12 عاماً. ورغم ظروفه الصعبة، يدعم المقاومة ويتحمل العواقب”.
لقد ظلت سوريا بعيدة عن الصراع وحاولت عدم استفزاز إسرائيل. ولكنها حاولت في الوقت نفسه استرضاء إيران بالسماح لها باستخدام الأراضي السورية لتوريد الأسلحة إلى حزب الله. ويقول جوشوا لانديس، رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، إن الأسد استمر في “مساعدة حزب الله في تسليحه ونقل الأسلحة إلى لبنان من إيران”، وهذا مايفسر السبب وراء قصف إسرائيل لسوريا، “وتدمير مصانع الصواريخ، واغتيال الجنرالات الإيرانيين، وتفجير قوافل الأسلحة”.
وإلى ذلك، لا يمكن إنكار أن غياب سوريا عن الصراع الدائر يشكل فشلاً ذريعاً لاستراتيجية “وحدة الساحات” التي تنتهجها إيران، والتي تتصور استجابة منسقة من جميع شركائها في محور المقاومة. ويكشف هذا كيف أن البقاء السياسي يأتي قبل التوافق الإيديولوجي، وأن سوريا في حالتها الحالية لن تشكل مشكلة بالنسبة لإسرائيل.