انعقد يومي 25 و26 من الشهر الفائت مؤتمر سوري في بروكسل تحت عنوان: المسار الديموقراطي السوري. رافقت المؤتمر ضجةٌ من المعترضين عليه، وعلى مشاركة معارضين مستقلين (عرب)، والمعلن في الاعتراضات أن هؤلاء بمشاركتهم يبيّضون صفحة الإدارة الذاتية الكردية ومن خلفها قوات قسد، لأن الإدارة الذاتية “مسد” هي فعلياً عرّابة المؤتمر، وصاحبة الكتلة الرئيسية ضمن المشاركين فيه، وزادت عن النصف نسبتُها من مقاعد الأمانة العامة للمؤتمر التي انتخبت في اليوم الثاني لانعقاده.
لم يلقَ المؤتمر مصير مؤتمرات سورية سابقة، في برلين وستوكهولم وسواهما، انعقدت أيضاً وراء يافطات مشابهة، ولم تنل الاهتمام أثناء انعقادها، ثم طواها النسيان. ولا شك في أن انعقاد مؤتمر بروكسل برعاية “مسد”، تحت عنوان سوري عريض، هو الذي وضعه تحت أضواء الانتقادات. وكان من السهل تجييش ردود الأفعال على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظمها رافض سلفاً للحوار مع مسد؛ تحت أي عنوان كان، وتحت طائلة تخوين المشاركين العرب.
لم يحدث على هامش مؤتمر سوري سابق أن يصدر بيان مضاد له، كما حدث عندما صدر بيان في 29 من الشهر عن قرابة عشرين منظمة سورية ومئة من الأفراد الموقّعين عليه. ثم، في نهاية الشهر، جرى تداول منشور لصفحة تحظى بمتابعة واسعة، تنقل فيها قولاً لمظلوم عبدي، القائد العام لقوات قسد، يشير من ضمنه إلى أن “الحوار مستمر منذ سنوات مع حكومة دمشق، ولم نحصل سوى على تقدّم محدود”. وأرجَعَ السببَ إلى رفض دمشق الاعتراف بالاستقلال الإداري والعسكري لقسد في مناطق سيطرتها، وهذا ما يعد بمثابة خط أحمر لدى “قسد”. ولا يخفى أن هذه الاقتباس يثير غضب الذين يرفضون الحوار مع سلطة الأسد، والحديث عن الاستقلال الإداري والعسكري يعزّز لدى البعض الآخر اتهام الأكراد بالسعي إلى الانفصال.
خلف الذرائع المعلنة، محقّةً كانت أو غير محقة، يقلل من صدقية هجوم البعض على المؤتمر أنهم أصحاب نزعة قومية. بل إن البعض لا يفلح في إخفاء عروبيته المقترنة بعنصرية تجاه الأكراد، ما يقدّم أفضل خدمة لأكراد لا يختلفون عنه لجهة النزوع القومي المقترن بالعنصرية، وليكون التقسيم هو المآل الذي يمكن استنتاجه منطقياً كحلٍّ للتكاره بين الطرفين.
ثمة الذين ينطلقون في هجومهم على المؤتمر من التواصل، الذي لم ينقطع أصلاً، بين منظومة مسد وقسد وبين الأسد. إلا أن أصحاب هذا الهجوم لا يقولون شيئاً عن الهيئة العليا للتفاوض، التي تمثّل المعارضة، ومنخرطة منذ سنوات في مفاوضات مع وفد الأسد بلا أدنى جدوى. بل لقد أُهينت هذه المعارضة، ممثّلة بالائتلاف وهيئة التفاوض، في العديد من المناسبات مثل مؤتمر سوتشي ومسلسل مؤتمرات أستانة الذي يتوقف ليتجدد. جدير بالذكر أن مسد غير ممثَّلة في مفاوضات اللجنة الدستورية التي شاركت في جولاتها هيئة التفاوض، ومعظم الذين يلومونها على صلاتها بالأسد لن يقبلوا بانضمامها إلى المفاوضات ضمن وفد المعارضة، أو كطرف ثالث مستقل.
رفضُ الحوار بالمطلق مع مسد يفتح على أسئلة حول قبول سلطات الأمر الواقع الأخرى، فقسم من الرافضين ليس له موقف جذري منها، وينظر إلى مناطق سلطات الأمر الواقع الأخرى بوصفها مناطق محررة. أي أنها، وفق الوصف الأخير، تنتمي إلى الثورة، ويُفترض أن تمثِّل قيمها، مع أن الانتهاكات التي تمارسها الفصائل المتحكّمة في تلك المناطق تتنافى جذرياً مع القيَم المفترضة للثورة؛ كي لا ندخل في مقارنة بينها وبين قسد على مقياس الأسوأ والأقل سوءاً الذي يستخدمه أنصار قسد وأنصار المعارضة وفصائلها.
أما بالنسبة للذين يرفضون مسد أسوة بسلطات الأمر الواقع الأخرى، فهم أمام معضلة استحالة الحوار كلياً بما أن الموجودين على الساحة لا يلبّون متطلبات الأوّلين. وهذا في أساسه منطق يجافي الواقع، إذ يتطلب الاتفاق بين أطراف الحوار قبل الشروع فيه، بينما قد يحدث الحوار بين أعداء مختلفين جذرياً، وقد لا تقل جدواه عن الحوار بين الواقعين تحت وهم التماثل.
المصيبة تكتمل من الطرف المقابل، عندما تتصرف مسد على نحو يلاقي هجوم خصومها أو منتقديها، فمثلاً في نهاية المؤتمر العتيد صدر بيان يظهر في بنده الأول كأنما يهدف إلى تفنيد الذين يتهمونها بالنزوع الانفصال، وينص على “وحدة سوريا أرضاً وشعباً؛ لأن الحفاظ على وحدة البلاد هو الأساس في أي حلّ سياسي، وهو ما يجب أن يشكّل قاعدة لأي عملية تفاوضية”. وسيكون من المستغرب تالياً أن يؤكد البند الأخير على “حلّ القضية الكردية وفق الشرعية الدولية وضمان حقوق المكونات الأثنية الأخرى”!
الإشارة إلى حل القضية الكردية وفق الشرعية الدولية ليست حكراً على مسد، فهي تتكرر منذ عقود في أدبيات العديد من الأحزاب الكردية، ويُقصد بها تحديداً حق تقرير المصير المنصوص عليه في المواثيق الدولية. السيء في السياق الحالي أن هذه الإشارة تناقض تماماً البند الذي ينص على “وحدة سوريا أرضاً وشعباً”، ما يقوّض من صدقية البيان ككل، ومن شفافية المؤتمرين. وأغلب الظن أن البند الأول وُضِع لإرضاء فئة من الحاضرين، ووُضِع البند الأخير لإرضاء فئة ثانية منهم، إلا أن الحصيلة من الركاكة والتناقض بحيث تنال من جدية وصدقية الفئتين. وكان يمكن لهما الاكتفاء بالبنود المتفق عليها حقاً، ولو كانت تفاهمات قليلة، ولا يُطلب من أي مؤتمر الخروج بتوافقات كلية كأنه الأول والأخير.
أما عن هيمنة مسد على مجريات المؤتمر وجدول أعماله فقد أتت نتيجة لهيمنتها على المسار نفسه، المسار الذي استُخدم فيه من قبل اسم مركز “أولف بالمه” كراعٍ، في حين كانت مسد هي حجر الأساس. هذا المسار أوحى سابقاً بأنه مخصص لتعريف شخصيات عربية بالقضية الكردية في سوريا، وهو هدف يستحق بذل الجهد، حتى إذا بدا متواضعاً بالمقارنة مع الادعاءات الديموقراطية للمؤتمر الأخير، خصوصاً أن بعض المشاركين المستقلين خرج ليشكو من تحكّم مسد بمجريات مؤتمر بروكسل بحيث منعت النقاش الديموقراطي.
ومن المؤسف أن الشكوى الأخيرة تقدّم سنداً لاتهام قديم متجدد، مفاده أن مسد تعمد إلى استزلام شخصيات عربية كي تظهر بمظهر الانفتاح على الآخر. فالانسحاب العلني لبعض المدعوين، مع إبداء أسبابه، يطعن بمواقف الصامتين غير المنسحبين، من دون أن يكونواً حقاً وبالضرورة على نحو ما تصوّره الاتهامات. لكن، في كل الأحوال، يؤدي هذا كله إلى ترهيب آخرين من الانضمام لاحقاً إلى تجربة الحوار، بل يتسبب بالأذى لتجارب مستقبلية بوضعها مسبقاً تحت طائلة الشكوك، بل ربما يتسبب بإحجام كثر عن مجرد التفكير في هذا الاتجاه جراء الفشل المتكرر.
في العموم يمكن القول أن الحوار العربي-الكردي سيبقى ممتنعاً طالما بقيت أوهام الغلَبة الكبرى أو الصغرى، القديمة منها أو المستجدة. وما تقوله تجربة مؤتمر بروكسل، في جانب مهم منها على الأقل، إن السوريين يكررون أخطاءهم المعتادة الروتينية، والحق أنهم بهذا منسجمون مع المنطق السائد في الإقليم حالياً، والذي يفضي إلى المزيد من الخراب.
Sorry Comments are closed