لماذا أقدمت إسرائيل على هذا التصعيد الخطير ولماذا انهار حزب الله بهذه الصورة؟
ما تفعله إسرائيل في الأيام الأخيرة يشير إلى أنها عازمة على تغيير كل موازين القوى وإعادة تشكيل شرق أوسط جديد تقوده هي ولا يمكن لهذا الشرق الأوسط أن يتشكل إلا بعد تحييد كل ما يسمى بقوى الممانعة.
بدأت إسرائيل بضرب حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة ثم استدارت لضرب حزب الله، وتمكنت في 10 أيام ابتداء من 17 إلى27 أيلول/ سبتمبر من اغتيال كل قيادات الصف الأول والثاني للحزب ومن بينهم حسن نصرالله، وذلك بعد أن مهدت لذلك بإختراق ضخم وغير مسبوق لصفوف حزب الله وربما لبعض الأجهزة الإيرانية في ظروف غامضة سوف تتكشف لاحقا، وعلى الأرجح سوف يتكشف معها دور أمريكي ودور لدول أخرى أكبر بكثير مما يبدو على السطح، وأبسط مؤشراته إمداد الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل بكل ما تحتاجه لتصفية حزب الله وقبلها حماس.
استخدمت إسرائيل مثلا في اغتيال حسن نصرالله وقيادات الحزب طائرات إف35 و إف15 وصواريخ أمريكية خارقة للحصون، ولم تتردد واشنطن بمباركة كل عملية اغتيال تقوم بها إسرائيل، فالرئيس بايدن اعتبر أن عملية اغتيال نصرالله ليست تصعيدا قد ينذر بانفجار منقطة الشرق الأوسط، ووصف الاغتيال بأنه “إجراء عادل لضحايا حسن نصرالله الكثّر في المنطقة”.
شرق أوسط جديد بمساعي أمريكية إسرائيلية.. هل يشهد بايدن ذلك قبل رحيله؟
التصورات حول الشرق الأوسط الذي تسعى إليه إسرائيل وبدعم أمريكي كامل مع اختلاف الطرفين في بعض التفاصيل والتكتيك والتوقيت، لكن مع الاتفاق في الغاية، لا تشكل سراً خفياً، وخلاصة هذه التصورات تتركز حول تجاوز القضية الفلسطينية وتصفيتها بشكل ما، ودمج إسرائيل مع الدول العربية الحليفة لأمريكا وتحديدا دول الخليج ومصر والأردن بالإضافة إلى دول عربية أخرى وغير عربية عبر مسار التطبيع النشط، على أن تشكل هذه الدول محورا “سنياً” صديقا لأمريكا ليواجه ليس فقط إيران إنما الصين وروسيا، وحتى تتحقق هذه الرؤية لابد من السير على عدّة محاور، أولها: اعتراف السعودية بإسرائيل ويتبعها عمليات اعترافات رسمية من دول أخرى كسلطنة عُمان والكويت وليبيا ودول خارج العالم العربي تباعاً، إن أمكن كإندونيسيا وباكستان إلخ، وحتى تتحقق النقطة الأولى لابد من تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية خلاصتها بدء التفاوض على قيام دولة على ما تيسر من أراضي فلسطينية، سلسلة كانتونات، يعني مناطق معزولة عن بعضها البعض تشكل شيئا يشبه دولة، أقل من دولة ولكن أكثر بقليل من حكم ذاتي، ويقود هذه الدولة أو شبه الدولة منزوعة السلاح قيادات فلسطينية جديدة مستعدة للتنازل عن معظم الثوابت التي عرقلت مفاوضات التنازل المطلوبة منذ 1967 وإلى الآن.
وحتى تتحقق النقطة الثانية لابد من استئصال كل ما يسمى بقوى الممانعة وعلى رأسها إيران، واستئصال إيران أمر غير وارد دون حرب كبرى، ولكن يمكن البدء في إضعافها باستئصال حماس وحزب الله والحوثي والحشد الشعبي العراقي بعدها يسهل احتواء إيران وتنفيذ النقطتين الأولى والثانية، وهذا التصور الذي أُعلن عنه مرارا وتكرارا هو خطة أو تصور بايدن لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهذا التصور يخدم بايدن لأنه إن تم أو ما قد يتم منه ضمن الوقت المتبقى له في البيت الأبيض، سيشكل انجازاً محل ترحيب من كمالا هاريس وترامب، وهو أيضا محل ترحيب كل القوى الإسرائيلية على تنوعها، وأيضا سيحظى بترحيب دول عربية في المنطقة، وهذا التصور يحقق أيضا أهداف نتنياهو في إطالة أمد الحرب ويبقيه في السلطة ويبعده عن الملاحقات القانونية على إخفاقاته في 7 أكتوبر.
السبب المباشر والمعلن لحملة إسرائيل ضد حزب الله
سبب إسرائيل المباشر من هذه الحرب هو فشل المفاوضات والوساطات الأمريكية والفرنسية في إقناع حزب الله بالتوقف عن قصف شمال إسرائيل، وهو القصف الذي تتذرع به إسرائيل لعدم إعادة سكانها المهجرين من شمال البلاد إلى مدنهم وقراهم، ونتذكر أنه بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أمر جيش الاحتلال الإسرائيلي جميع السكان الإسرائيليين الذين يعيشون على بعد حوالي 5كم من الحدود مع لبنان بالإخلاء خوفا من قصف أو عمليات لحزب الله، ونتيجة لذلك أصبح أكثر من60 ألف إسرائيلي نازحين، ولكن هذا الهدف المعلن لا يعني شيئا أو لا يشرح شيئا لأنه لوكان هذا هو الهدف الحقيقي من الحرب على حزب الله لأمكن تحقيقه بالإستجابة لمطالب الجميع بما فيهم أمريكا، أي أن تقبل إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة وما يترتب عليه من وقف إطلاق النار تلقائيا من حزب الله والحوثيين ومن العراق، لأن كل هذه الأطراف أعلنت التزامها بوقف النار إذا توقفت الحرب في غزة، وهو حل منطقي وغير مكلف لإسرائيل بعد أن أعلنت على لسان أكثر من مسؤول نجاحها في تفكيك كتائب حماس لكن مشكلة هذا الحل البسيط أنه لا يحقق أهداف نتنياهو الصغيرة ولا أمانيه الكبيرة.
لماذا لم تسع إسرائيل لتصفية حزب الله قبل ذلك؟
إجابة هذا السؤال تستدعي النظر إلى عدة مراحل مرت بها الأوضاع في السنوات الماضية السابقة لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، فبعد حرب سنة 2006 كان المانع الأساسي من تحرك إسرائيل لضرب حزب الله هو الخوف من الخسائر التي يمكن أن تتكبدها إسرائيل في حرب جديدة ضد الحزب، وأيضا الفيتو الأمريكي في فترات كثيرة خوفا من اتساع المواجهة بين إسرائيل والحزب لتكون حربا إقليمية، أما بعد هجوم 7 اكتوبر وتمكن إسرائيل كما تبين لاحقا من اختراق الحزب، فقد كانت إسرائيل منشغلة لشهور طويلة بضرب حماس في غزة، لكن بعد نحو عام من قصف غزة وتدمير القطاع لم تعد حماس تمثل خطرا يتطلب اهتماما حصريا من جيش الاحتلال، وبالتالي بدا من الممكن مؤخرا توجيه الاهتمام العسكري الإسرائيلي لجبهة الشمال، كما أن الوقت يداهم نتنياهو وحكومته، وهو يريد أن يعلن في الذكرى الأولى لهجمات 7 أكتوبر، عن سلسلة انتصارات تمحو ذكرى الهزيمة والفشل قبل عام.
ومن الأسباب التي لم تدفع إسرائيل لضرب حزب الله من قبل، وشجعتها مؤخرا على المضي بهذا الهجوم، النجاح الكبير الذي حققته باختراق حزب الله بداية من 17 أيلول/ سبتمبر، ونتائج هذا الاختراق بدأت مع تفجيرات البيجر وما ترتب عليها من فقدان الحزب لاتزانه مع يقين إسرائيل أن إيران لا ترغب في حرب الآن مع إسرائيل، وأشارت تسريبات كثيرة إلى أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد تمكنت من اختراق الحزب منذ مدة طويلة وكانت تخطط لاستخدام أجهزة البيجر المفخخة واللاسلكي المفخخ كضربة افتتاحية مفاجئة تشل حزب الله في حرب شاملة معه في توقيت معين، وتمكنت إسرائيل من تفخيخ هذه الأجهزة التي هي موجودة في أيدي قيادات وكوادر حزب الله لتنفجر في وقت واحد وتعجز قيادات الحزب عن التواصل مع عناصره وتنهار صفوفه وتصبح مهمة إسرائيل أسهل بكثير جدا في القضاء على حزب الله.
لماذا هذا الانهيار السريع لحزب الله؟
حدث اختراق ضخم جداً مكّن إسرائيل من معرفة خطط وتحركات حزب الله ومواقع قادته بدقة تدعو للدهشة، والآن نستطيع أن نفهم كثيراً من الأمور التي كانت ملتبسة في الشهور الماضية بأثر رجعي، يعني مثلا نستطيع أن نفهم لماذا في 3 حزيران/ يونيو الماضي قال رئيس الموساد السابق يوسي كوهين “أن الاستخبارات الإسرائيلية تعرف مكان حسن نصر الله حتى وأنه غير مكانه، ويمكن لإسرائيل إسقاطه في أي لحظة”، كما أننا نستطيع أن نفهم ما جرى في 30 تموز/ يوليو الماضي ففي مساء هذا اليوم تمكنت إسرائيل من اغتيال فؤاد شكر أهم قائد عسكري في حزب الله بعد أن تمكن من الإفلات من كل محاولات اغتياله من جانب إسرائيل وأمريكا منذ ضلوعه في التخطيط لتفجيرات ثكنات مشات البحرية الأمريكية الشهيرة في بيروت سنة 1983، وطريقة قتله طبعا مثيرة جدا لأنه في ذلك اليوم ووفقا لمسؤول في حزب الله تحدث لعدد من وسائل الإعلام الأمريكية الكبيرة، بأن فؤاد شكر تلقى مكالمة مؤمنة على خطوط لشبكة الحزب في مكتبه، تلقى مكالمة اعتيادية المفروض أنها من شخص يثق فيه ويطلب منه الذهاب إلى شقته في الطابق السابع من نفس البناية التي فيها مكتبه في الطابق الثاني، ليجد الصواريخ الإسرائيلية في انتظاره فقتلته مع أسرته، وفي ذات اليوم تمكنت إسرائيل من اغتيال إسماعيل هنية في مقره إقامته في قلب طهران، وأيضا يمكننا أن نفهم ماذا حدث فجر يوم 25 آب/ أغسطس الماضي عندما أعلن حزب الله أنه أطلق 320 صاروخ كاتيوشا وطائرة مسيرة نحو أهداف عسكرية في إسرائيل انتقاما لمقتل فؤاد شكر ولكن الحزب لم ينشر كعادته فيديوهات توثق ما قاله عن رده العسكري، بينما أعلنت إسرائيل أنها علمت بنوايا الحزب فنفذت 100 طائرة حربية إسرائيلية عملية استباقية دمرت خلالها ألاف منصات إطلاق الصواريخ والمسيرات التابعة للحزب، فإسرائيل كانت تعرف تحركات الحزب لحظة بلحظة والشواهد كثيرة وصولا إلى الحدث الأكبر وهو اغتيال حسن نصرالله ومجموعة كبيرة من قادة الحزب، وقادة أخرين ربما من الحرس الثوري الإيراني في مقر الحزب السري في الضاحية الجنوبية في بيروت.
ساعد في هذا الاختراق الكبير للحزب عوامل كثيرة أهمها انكشاف حزب الله في السنوات الأخيرة، قبل سنة 2011 كان الحزب متحصنا في مناطق انتشاره المغلقة، وضمن حاضنته الشعبية، ولكن بعد اندلاع الثورات العربية سخر الحزب كل إمكاناته لدعم الأجندة الإيرانية وخدمة المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط فانتشر عناصره في سوريا واليمن والعراق، هذا الانتشار أحدث ثغرات لديهم، وأوجد أعداء أكثر، وبعد ادعائهم الانتصار في حرب 2006 جعلهم الشعور بالانتصار أقل حذرا وأكثر ثقة وغرورا.
هل ستخوض إيران حربا مع إسرائيل؟
لن يدفع اغتيال حسن نصر الرجل الأول لإيران في المنطقة لتخوض حربا من أجله، لأسباب عدّة: أولها خوفاً من اندلاع حرب هي غير مستعدة لها، وثانيها خوفها من أن تكون هي أيضا مخترقة على نطاق واسع وتحركاتها مكشوفة، وهناك أدلة كثيرة على ذلك، وثالثها خوفا من انفجار الجبهة الداخلية نتيجة غضب شعبي من إصرار النخبة الحاكمة في إيران على استنزاف موارد البلاد المحدودة في حروب لا تنتهي، أما رابعها فهو الخوف من ضربات على برنامجها النووي قبل أن تتوصل إلى إنتاج القنبلة، وخامسها الخوف من فشل المفاوضات السرية مع الأمريكان والتي لا نعرف الكثير عن تفاصيلها، ولكن من الواضح أن إيران لديها ما يجعلها تعول على هذه المفاوضات، على الأقل قبل مجيء ترامب، وتفضل مواصلة المناوشات مع إسرائيل عبر وكلائها في المنطقة.
عذراً التعليقات مغلقة