تصبّ مؤشّرات عديدة في صالح التقديرات أنّ الحرب الإسرائيلية على لبنان ستكون طويلةً، وتسلك مساراتٍ غيرَ متوقَّعةٍ وخارج حسابات مختلف الفاعلين، في ظلّ إصرار حكومة اليمين المُتطرّف في إسرائيل على استثمار نافذة الفرص المفتوحة بعد قلب موازين القوى لصالحها، الأمر الذي يتيح لها تغيير المعادلات في المنطقة إلى أمد بعيد. ومن ضمن هذه المعادلات، تفكيك محور إيران نهائياً عبر تصفية ساحاته، ولا سيّما التي تقع ضمن نطاق الحلقة الأولى، أو مناطق التماسّ التي تتشكّل بدرجة أساسية من جبهات جنوب سورية وجنوب لبنان وشرقه، بالإضافة طبعاً إلى غزّة والضفّة الغربية.
في هذا السياق، تبدو جبهة جنوب سورية، التي تمتدّ من أرياف درعا الغربية والشمالية، مروراً بالقنيطرة وريف دمشق الغربي، مرشّحةً لتحركّاتٍ إسرائيليةٍ في المرحلة القادمة لعدّة أسباب: أولها وجود بنيةٍ عسكريةٍ لحزب الله والمليشيات الإيرانية في هذه المنطقة، وعلى الرغم من عدم وجود بنى ظاهرة للعيان، مثل قواعد عسكرية، لكن ليس سرّاً وجودُ عناصرَ مدرّبين في شكل خلايا نائمةٍ جنّدها حزب الله من أبناء المنطقة للقيام بمهام من نوع الرصد وحماية طرق الإمداد التي يمرّ بعضها من تلك المناطق، ويستطيع الحزب تفعيل هذه البنى عند الضرورة، وهي في كلّ الأحوال في طور الخدمة، بدليل إطلاق المقذوفات بين الحين والأخر من جبهة الجولان.
ثانياً، احتمال تفعيل إيران جبهة الجولان، رغم رفض النظام مثل هذا الأمر، وقبول إيران (حتّى هذه اللحظة) الوظيفة اللوجستية لسورية، والحفاظ على سلامة نظام بشّار الأسد، إلّا أنّ تطوّرات الحرب، واحتمالات تهديد الوجود الفعلي لحزب الله في لبنان، قد تدفع إيران إلى لعب أوراقها كلّها، لوجود اعتقاد أنّ تدمير الحزب سيشكّل ديناميكيةً تؤدّي إلى إنهاء نظام الأسد بالتبعية، وقد تهدف إيران من ذلك لتوريط روسيا بالصراع عبر تهديد مصالحها من إسرائيل.
تبدو جبهة جنوب سورية، التي تمتدّ من أرياف درعا الغربية والشمالية، مروراً بالقنيطرة وريف دمشق الغربي، مرشّحةً لتحركّاتٍ إسرائيليةٍ
ثالثا، إحداث إسرائيل خرقاً (دفرسوار) في شرق لبنان (الهرمل)، جرّاء الصعوبات التي تواجهها في جبهة جنوب لبنان، بغرض قطع طرق إمداد الحزب نهائياً من سورية، وكانت مصادر إعلامية مقرّبة من حزب الله قد أشارت الى هذا الاحتمال، إذ توقّعت أن يكون الخرق من جبهة الجولان وصولاً إلى البقاع الغربي، وما يشجّع على تبنّي هذا السيناريو ضعف البنى العسكرية للقوات السورية في هذه المنطقة، التي تديرها ألوية وفرق مشاة غير مجهّزة بأسلحة لديها القدرة على صدّ الهجوم الإسرائيلي، وقد كان لافتاً دعوة أفيغدور ليبرمان (رئيس حزب إسرائيل بيتنا) إلى احتلال الجزء السوري من جبل الشيخ، الذي يشرف على مناطق في البقاع الغربي اللبناني، وقيام القوات الإسرائيلية بإجراءات أمنية قرب قرية حضر غير البعيدة عن مرجعيون.
بناء على هذا الاحتمال، ستكون في ذهن المخطّطين العسكريين الإسرائيليين ضرورة تأمين ظهر القوات العسكرية، إذ سيكون من السهولة استهدافها، وربّما محاصرتها، من قوَّات تقف في الجبهة المقابلة، أي الشريط الممتدّ من أرياف درعا إلى ريف دمشق الغربي، وبالتالي تكبيد الفرق العسكرية الإسرائيلية خسائرَ فادحةً قد يضطرها إلى تغيير مسار الحرب، وربّما فكرة الحرب من أصلها.
يبرز هنا بوضوح احتمال إقامة شريط أمني عازل في هذه المنطقة. لكن هذا الاحتمال، رغم إمكانية تنفيذه نظرياً، يواجه عقبات عملياتية كثيرة، أهمّها أنّ إسرائيل ستضطر لتفريغ قوّة عسكرية كبيرة للسيطرة على هذا الشريط الذي يمتدّ إلى أكثر من مائة كيلو متر ضمن تضاريس وعرة نسبياً، إذ يستطيع الخصم، ومن خلال خلايا صغيرة، استنزاف القوات الإسرائيلية، وتكبيدها خسائرَ فادحةٍ، بالنظر إلى انفتاح المنطقة على عمق يصل إلى حدود البادية السورية، وتصعب السيطرة عليه.
يبقى جنوب سورية مستهدفاً إسرائيلياً في ظلّ سعي حكومة نتنياهو إلى استثمار نافذة الفرص
وثمّة عقبة أخرى تتمثّل بعدم وجود بيئة حاضنة لوجود إسرائيلي محتمل، صحيح أنّ هذه المناطق هي مناطق معادية لنظام الأسد والمليشيات الإيرانية، وأنّ بعض الفصائل الموجودة فيها سبق له التعامل مع إسرائيل، لكنّ كثيراً من عناصر هذه الفصائل يتقاطع مصلحياً مع نظام الأسد، عبر تجارة المخدّرات والسماح لهم ببسط سلطتهم على المناطق الموجودين فيها، وقد لا يحصّلون هذه المكاسب بالتعامل مع إسرائيل، التي لا تثق أصلاً بهؤلاء العناصر، وسبق أن فضَّلت النظام عليهم عبر سماحها بعودة سيطرته في تلك المناطق.
ويتمثل العائق العملياتي الأكثر أهمّيةً في هذا السياق برفض الأردن وأميركا التعاون مع إسرائيل في إنشاء الشريط الحدودي، إذ من المعلوم أنّ للأردن تأثير كبير في الفواعل في جنوب سورية، ولا يزال العديد منهم يتّخذ الأردن مرجعيةً، ولديه قنوات تواصل مع عمّان، والرفض الأردني سيكون مبنياً على حسابات استراتيجية، إذ إنّ وجود إسرائيل في شماله سيشكّل نقطةَ ضعفٍ استراتيجية خطيرة بمواجهة الأردن، الذي بدأ يشكّك في نيات إسرائيل بعد ارتفاع نبرة الخطاب الديني في الحرب الإسرائيلية، بما يعنيه ذلك من عودة أحلام إسرائيل الكبرى، وما تنطوي عليه من تهديد خطير للأردن. أمّا واشنطن التي ترفض توسيع الحرب، فهي لا ترغب في خروج المعارك عن مسارات محدّدة تتمثّل في إضعاف حزب الله، وليس إشعال المنطقة برمّتها.
ورغم هذه المعوقات، تبقى منطقة جنوب سورية في عين الاستهداف الإسرائيلي، في ظلّ توسيع حكومة نتنياهو “بيكارَ” حربها في المنطقة، وسعيها لاستثمار نافذة الفرص المتاحة لتعزيز وضع إسرائيل الاستراتيجي في المنطقة.
عذراً التعليقات مغلقة