تسلّط حوادث الخطف المتكررة في مناطق سيطرة النظام السوري الضوء على الواقع الأمني المأساوي الذي تعيشه البلاد، ورغم محاولات النظام الترويج للسياحة فيها بعد عودة العلاقات السياسية بين بعض الدول العربية وحكومة الأسد، إلا أن الشهر الماضي شهد ثلاث حالات اختطاف لزوّار عرب، من بينهم مواطن عراقي وشخصان من الأردن.
هذه الحوادث تؤكد على استمرار التدهور الأمني في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، ما يثير تساؤلات حول مدى جدية تلك الدعوات لاستعادة النشاط السياحي في ظل هذه الظروف الخطيرة.
وأعلنت كل من وزارة الخارجية العراقية ووزارة الخارجية الأردنية متابعتهما مع سلطات النظام السوري المختصة لـ”عمليات البحث عن المواطنين المفقودين في الأراضي السورية”.
من جانبه أشار الصحافي العراقي عثمان المختار، عبر حسابه في منصة X، إلى تورط أجهزة النظام السوري بشبكات خطف وسرقة الوافدين وابتزازهم، موضحًا أن حادثة الخطف العراقي الأخيرة هي الثالثة من نوعها، فقد أطلق خاطفون سراح مواطنَين عراقيين في ضواحي دمشق الشهر الماضي بعد سلب أموالهما وهواتفهما المحمولة، في حين لا يزال المختطف الثالث، وهو من أهالي البصرة، مختطف في قرية البياضية بريف حماة منذ 24 أغسطس/آب 2024.
وكان سائقا سيارات سفريات أردنيان يدعيان ماهر الصوفي ومحمود عويضة، فُقدا في سوريا في 25 أغسطس/آب الماضي، بعد أن أوصلا أمانات من عمّان إلى دمشق، وذكر موقع “تجمع أحرار حوران” المحلي أن العصابة التي اختطفت محمود عويضة تواصلت مع والدته عبر تطبيق واتساب الخاص بابنها، وطلبت فدية قدرها 150 ألف دولار أمريكي لإطلاق سراحه.
خطف بغطاء أمني
جماعات متنوعة التوجهات تقف وراء حالات الخطف مقابل الفدية في مناطق سيطرة النظام السوري، وقال الباحث والحقوقي عمر إدلبي مدير مكتب الدوحة في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” لـ”نون بوست” إن مجموعات الخطف تنقسم إلى فئتين، بعضها يحظى بغطاء أمني من أجهزة النظام السوري لضمان عدم الملاحقة، والأخرى عصابات تشرف عليها وتدعمها الأجهزة الأمنية بشكل مباشر، لإشاعة جو من الانفلات الأمني كمنهجية اتبعها النظام في مناطق التسوية، لتأكيد ضرورة حضور النظام وتفعيل مؤسسات الدولة مثل مناطق تلبيسة شمال حمص ومناطق درعا، حيث لا تمتلك الأجهزة الأمنية سيطرة كاملة عليها.
ويؤكد إدلبي أن المسؤول الأول هو نظام الأسد المستفيد من حالة الفوضى التي تسببها عصابات الخطف التي طالما دعمته في حربه على الشعب السوري عندما كانت ميليشيات رديفة لقواته، وبعد انتهاء العمليات القتالية وسرقة الممتلكات، وضعف دعم الأسد وإيران للميليشيات، بات الخطف وقطع الطرق والسلب بالإكراه، وسائل للتمويل.
ويتفق الصحافي أيمن أبو نقطة الناطق باسم “تجمّع أحرار حوران” مع إدلبي في أن عمليات الاختطاف تقف خلفها مجموعات مسلحة محلية جلُّها تحمل بطاقات أمنية صادرة عن النظام السوري.
ويقول أبو نقطة لـ”نون بوست” إن دور النظام السوري يأتي في إعطاء الميليشيات المحلية حق التمويل الذاتي عبر الخطف مقابل الفدية، بالتزامن مع تحقيق هدف النظام بوجود انفلات أمني في مناطق التسوية، حتى يبرر ذلك ببقايا المعارضة ويتهمهم بعمليات الخطف.
من جانبه اعتبر معن طلاع مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، في حديثه لـ”نون بوست” أن مؤشرات عدم الاستقرار الأمني وانتشار عصابات الخطف يمكن تقسيمها إلى 3 أنواع، الأول “نوع مرتبط بتحصيل الانتفاع الذاتي لميليشيات رديفة لجيش النظام السوري تشكَّلت لقمع السوريين، وعندما تم تفكيكها أصبحت قوى محلية لديها علاقات أمنية لتحصيل امتيازات ضمن العمل المافياوي مثل: الخطف وتجارة المخدرات وغيرها”.
والنوع الثاني “مرتبط بالجرائم ذات الدوافع السياسية، سواء تصفية النظام لشخوص كانوا معارضين له مستندًا على تلك العصابات من جهة، أم تصفية المعارضة لرموز النظام عبر خلايا نائمة من جهة أخرى، أما النوع الثالث “مرتبط بتدهور الحياة الاقتصادية التي تعزّز الاكتساب غير المشروع”
وأشار طلاع إلى أن للنظام السوري دورًا مباشرًا استخباراتيًا وأمنيًا يكون عبر التواصل مع العصابات للقيام بأعمال خاصة أشبه بصندوق أسود تقوم بها أجهزة الدولة، ودورًا غير مباشر في عدم تحقيق الاستقرار الأمني، رغم تضخيم عمل الأجهزة الأمنية وتكريس فلسفة التوحش، دون أن ينعكس ذلك على تحسين البيئة المحلية وإيجاد حلول معاشية للسكان، فالنظام غير معني بمعدلات التنمية، فهو لا يبدي مرونة في الحل السياسي ويستطيع التهرب من العقوبات الأمريكية والأوروبية.
عصابات حمص
تنشط في ضواحي حمص عصابات خطف عديدة، أبرزها على مستوى سوريا، حسب عمر إدلبي، مجموعة شجاع العلي التي تنتشر في قرى ريف حمص الغربي، ومنها قرى قريبة من حمص شمال القصير مثل الجوبانية والشومرية، وهي مجموعة متورطة بالكثير من جرائم تهريب البشر والآثار والخطف والقتل خاصة على الحدود السورية – اللبنانية، وأوتوستراد حمص – طرطوس.
وتنقسم المجموعة إلى مجموعات صغيرة يترأسها العديد من الزعماء أبرزهم يوسف السعيد، علي السعيد، محمد فؤاد السعيد، الذين ينحدرون من قرية مراسيا غربي حمص، مشيرًا إلى أن قرية البياضية التي فُقد فيها المواطن العراقي مؤخرًا هي قرية تابعة لمنطقة مصياف بريف حماة، وقريبة من حدود شمال غرب حمص، وتعتبر أماكن تمركّز مجموعات شجاع العلي.
أمّا في ريف حمص الشمالي، فإنَّ أبرز من يتزعم مجموعات الخطف وترويج المخدرات هو سليم النجار الملقب بـ”سليمو”، وحسام العرفان الملقب بـ”العركان” ومحمود العلوش التابع جزئيًا لمجموعة حسام العرفان، وبشار الطاهر الملقب بـ”الميجر”، إضافة إلى مجموعة يتزعمها مدين حديد الملقب بـ”البرجس” في مدينة تلبيسة، تُنسب إليه مؤخرًا عملية خطف صاحب معمل نحاس في مدينة حمص يدعى عبد الباري فتوح. وحسب موقع تلفزيون سوريا فقد نجا البرجس من محاولة اغتيال في 6 سبتمبر/أيلول الحالي.
وأكد إدلبي، أن جميع المجموعات مرتبطة بأجهزة النظام الأمنية خاصة فرع المخابرات العسكرية في حمص، واللواء حسام لوقا رئيس المخابرات العامة في النظام السوري على دراية بأعمال تلك المجموعات، وسبق أن تدخل شخصيًا في وساطات للضغط على زعماء مجموعات لإخلاء سبيل عدد من المختطفين.
عصابات الجنوب
ومن وسط سوريا إلى الجنوب حيث تنشط العديد من عصابات الخطف أيضًا، حيث أفاد أيمن أبو نقطة الناطق باسم “تجمع أحرار حوران” بأن مكتب توثيق الانتهاكات في التجمع يوثق شهريًا بشكل وسطي 10 حالات خطف و20 حالة اعتقال و30 محاولة وعملية اغتيال تستهدف عسكريين ومدنيين.
وفي إحصائية شهر أغسطس/آب الماضي، تم توثيق 13 مخطوفًا في محافظة درعا، أفرج عن 4 منهم، وقتل 6 أشخاص بينهم مجند من النظام، ولا يزال 3 أشخاص قيد الاختطاف من بينهم أردنيان.
وحسب أبو نقطة فإن أبرز مجموعات الخطف المعروفة بتلقيها دعمًا لا محدود من ضباط النظام السوري في الجنوب هم: مجموعة محمد الرفاعي المعروف محليًا بـ”أبو علي اللحام” في بلدة أم ولد شرق درعا، التي ترتبط بمجموعات من أبناء عشائر البدو، كمجموعة عطا السبتي التي كان عمر الغثوان أحد أفرادها في منطقة اللجاة، ومجموعة محمد عماد الكردي وأسامة الزعبي المعروف بـ”سنجر” من بلدة المسيفرة شرق درعا، ومجموعة فادي الفروخ، بشار الفروخ وفراس الديري في ريف السويداء.
وفي منطقة اللجاة الاستراتيجية التي تربط محافظتي درعا والسويداء وتتصل بمحافظة ريف دمشق، تُعرف مجموعة بتنفيذ عمليات خطف يقودها الشقيقان: هاشم وصقر البيدر مع والدهما رائف البيدر المنحدر من قرية مسيكة، وذلك بتوجيهات مباشرة من المساعد في الأمن العسكري عمار رئيف القاسم الملقب بـ”أبو جعفر”.
وفي مدينة الصنمين شمال درعا تُعرف مجموعة محسن الهيمد المرتبطة بفرع الأمن العسكري وتنظيم الدولة “داعش”، بعملها في تنفيذ عمليات الاغتيال والخطف بحق شخصيات معارضة للنظام في المدينة، وشخصيات أخرى موالية يُريد النظام التخلص منها.
أما في مدينة درعا تُعرف مجموعة محمد المسالمة الملقب بـ”هفو” بعملها في تنفيذ عمليات الخطف لصالح تنظيم الدولة “داعش”، حيث يتنقل المسالمة بين أحياء درعا ومنطقة النخلة وبلدة نصيب بحماية من القيادي عماد أبو زريق المرتبط بفرع الأمن العسكري، وحسب مصادر محلية فإن هناك تعاونًا وثيقًا بين المسالمة وأبو زريق في تجارة وتهريب المخدرات.
وفي محافظة السويداء، التي تشهد مظاهرات سلمية ضد نظام الأسد منذ أكثر من عام، قال أحد نشطاء الحراك الشعبي لـ”نون بوست” إن عمليات الخطف في المنطقة تحصل لهدفين، الأول من أجل كسب المال، والثاني بهدف الإخفاء القسري والاعتقال.
ومن أبرز العصابات، عصابة مهند مزهر وعصابة وائل الشعار وعصابة علاء الحرفوش، المعروفة بتبعيتها لجهاز الأمن العسكري في السويداء، وعصابة عزام عريقة التي قتل متزعمها المدعو علاء الجبر عزام باشتباكات مع حركة رجال الكرامة في 7 أغسطس/آب 2024 في بلدة عريقة غرب السويداء لإنهاء نشاط العصابة، لافتًا إلى أن حركة رجال الكرامة بدأت حملة تفكيك واجتثاث العصابات في السويداء وكان أبرزها القضاء على عصابة “حركة الفجر” بقيادة راجي فلحوط في 26 يوليو/تموز 2022.
ضحايا المحتوى الكاذب
ذكر معن طلاع، أنَّ دول الجوار والعرب تتحمّل مسؤولية كبيرة فيما يحدث بسوريا، كونها تشجّع على التطبيع مع النظام السوري وعودة اللاجئين السوريين، لافتًا إلى أنَّ عدم وجود أي انفراج سياسي ينعكس سلبًا على المجتمع المحلي وسط هيمنة المجموعات المسلحة على الواقع الأمني.
وأشار الصحافي العراقي عثمان المختار، في رده على تعليق عن سبب زيارة العرب لسوريا في حسابه بمنصة X إلى أنَّ “قسمًا كبيرًا منهم يقع ضحية فيديوهات كاذبة، لبعض صُنّاع المحتوى والمدونين، حول الأوضاع هناك”.
وفي هذا الصدد، قال عمر إدلبي إن جزءًا كبيرًا من مسؤولية حوادث الخطف تتحمّله التسجيلات المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تُظهر الأمان والاستقرار في سوريا بعدسات المؤثرين (يوتبرز وتيكتوكرز سوريين وعرب وأجانب)، حيث تروّج لسردية النظام بأنه انتصر على الإرهاب وباتت سوريا متاحة للسياحة، لكنها ادعاءات كاذبة.
ويعتقد إدلبي، أن زيارة السياح العرب خاصة المشاهير ليست بحدّ ذاتها في اهتمام نظام الأسد، كونها لا تؤثر بالواقع الاقتصادي بشكل فعلي، لكنه يستثمرها بالمجال السياسي، كذلك لا تشكل عمليات الخطف الكثير من الضغط عليه، بل يستثمرها بادعاء أنه بحاجة للدعم المالي العربي كي يضبط الأمن ويعتقل زعماء العصابات.
وطالبت حكومة الأسد في أكثر من اجتماع مع اللجنة المشتركة التي أنشئت على هامش تفاهم عمان الذي أعاد النظام للجامعة العربية بعد قطيعة لسنوات، بمساعدة مالية لمواجهة عصابات المخدرات التي يدّعي بأنه يلاحقها وهي في الحقيقة تنفذ أجندة النظام بوضوح لإغراق المنطقة العربية بالمخدرات والضغط على دول الجوار لتطبيع العلاقات دون تقديمه تنازلات في مسار الحل السياسي في سوريا، حسب إدلبي.
وفي الختام يحذر أيمن أبو نقطة أيّ زائر عربي لسوريا من تعرضه للاختطاف، داعيًا المشاهير/المؤثرين إلى التوقف عن الترويج للسياحة في سوريا، لأن الواقع المؤلم عكس ذلك تمامًا، بالتالي دور وسائل الإعلام هو التوعية بمن يقف وراء عمليات الخطف، وهو نظام الأسد، وفق قوله.
Sorry Comments are closed