مع غياب القيم الفعليّة للمدنيّة والديمقراطية، يمكن اعتبار نظام الأسد في سورية حاكماً لسلطة المجتمع، وهي سُلطة أمنيّة؛ تعمل منذ عقود على سحق (يمكن قراءتها تطويعاً) سُلطة الفرد – الأفراد؛ الشعب. وبنظرةٍ تاريخيّةٍ إلى البلاد، منذ سبعة عقود ونيّف بعد الاستقلال، يمكن أيضاً التأكّد من فرضيّة الطغيان تلك. يُراد لنا أنّ نفهم؛ كيف كانت الحكوماتُ المُتعاقبةُ في سورية تقوم على جوهر المصالح المشتركة ما بين الجيش والسياسيين. وبصورة أدقّ، العسكر هم من كانوا يصنعون السياسة، وهُم بالضرورة من شكَّل نموذجَ السُلطة البيروقراطي الذي لا يزال يحكم سورية.
بالتزامن مع ذلك، بدا أنّ التشريع الاجتماعيّ في سورية لا يحتمل الانتماء إلى فكرة السلام بين الأفراد، وفي باطنه الفكري يُعاني من انعدام الثقة بمفهوم التشاركيّة المدنية الحقّة. معظم القوانين التي سُنَّت، كانت في الغالب تقوم على احتياجاتٍ تُعزّز من نمو العسكرتارية في المجتمع السوري، وتلغي الحياة المدنيّة لتُحِلَّ في محلَّها بيروقراطيّةً ناعمةً ستصبح فيما بعد من أشرس الأنظمة العربية حكماً. لا تهتم الولاءات في سلطة المجتمع السوري بالكفاءات، تقوم وفق مبدأ التبعيّة للسلطة الجماعية، والتعاون في سبيل ملاحقة أيّ مبادرة خارجة عن طاعة النظام الأمني. وبهذه الطريقة، فُقِدت الثقة بين الأفراد، اندثرت سلطة الفرد النابعة من الثقة بذاته، وانهارت أمام قمع سلطة المجتمع.
حين صعد الجيش السوري إلى سُدَّة الحكم، بانقلاب عسكري، كان قد مضى على استقلال البلاد ثلاثة أعوام تقريباً، وذلك في 30 مارس/ آذار عام 1949، إذ انقلب قائد الجيش آنذاك، حسني الزعيم، على الرئيس المدني شكري القوّتلي، ثمّ وضعه في السجن، واستولى على الحُكم. ومنذ ذلك الوقت، تُفرَض القوانينُ والقراراتُ الكبيرة في سورية بقوّة السلاح، لقد بقي حضور الجيش في مفاصل الدولة في شكل أجهزة أمنيّة ومعتقلات من دون محاكم، الأمر الذي جعل الذهنية العسكريّة تُصيب الأيديولوجيا في سورية بالاضطراب والنقص التنظيري، خصوصاً بعد صراع نظام حافظ الأسد مع تمرّد جماعة الإخوان المسلمين، ومع الفصيل العسكري الذي خرج من هذه الجماعة؛ الطليعة المقاتلة. كانت تلك المرحلة من تاريخ سورية تُعرَف بـ”أحداث الثمانينيّات”، حين دخلت السلطة مع أيديولوجيا مُعارِضة ذات خلفيّة دينيّة؛ في معترك واحد تحت الضوء، وبلغة السلاح، والعنف، والتدمير. وكان الردّ على بقية الأفراد في المجتمع سحق كلّ من يُعارض الحكمَ العسكري، سواء المُعارَضة بأسلحةٍ خفيفةٍ، أو بالقول، أو بالكتابة، أو بالفِكَر المناهضة للعنف والسلاح.
لا يحتمل التشريع الاجتماعي في سورية الانتماء إلى فكرة السلام بين الأفراد، ويُعاني انعدام الثقة بمفهوم التشاركيّة المدني
لقد خلط العسكر، ومن خلفهم التفكير الأمني العميق في سورية، كلّ أوراق التغيير والاحتجاج والمُعارَضة، حتّى تحوَّل المجتمع برمّته أداةً بيد السلطة ضدّ الفرد، الذي لا يريد أن يقتل الآخر لأنّه يختلف معه. وعليه (بحسب السلطة) أن يُشارك الجميع في تقوية العسكرتاريا فقط، ونشرها في كلّ ميادين الحياة السورية.
ومع تصاعد ذلك الخطاب العنيف من السلطة تجاه الفرد، تشكّل الوعي الأوّل لدى شباب سورية اليوم، والذين وُلِدوا في ذلك المناخ السياسي القمعي، وتدحرجت إلى خيالاتهم سِيَرُ الناس الذين وضعوا “وراء الشمس” لأنّهم كانوا يُعارضون النظام أو لأنّهم يتحدّثون عن انتهاكات القوات العسكرية التابعة له. ابتداءً من صحبة الأطفال فيما بينهم في المدرسة، إذ كانت صورة الرئيس حافظ الأسد فوق سبّورة التعليم في الصفوف، وهذا “الفوق” كناية عن أنّ الرئيس فوق العِلم والتعليم، لأنّه “المُعلّم الأوّل” كما كانوا يعلّموننا. ومع تلك الفِكَر، نمت لدى الفرد، بعد سنوات وعيه الأولى، تساؤلاتٌ كبيرةٌ من قبيل: لماذا لا تسير الأمور في المجتمع على نحو عادل بالنسبة إلى تقاسم الفرص؟ ولماذا يُعتَبر اندفاع الأفراد لتحسين ظروف عيشهم مُجرَّدَ حلمٍ للهروب من تقدّم الواقع نحو الأسوأ؟
كانت مقدرة الفرد في التفكير تتراجع أمام تكريسه جزءاً من آلةٍ خدميّةٍ لمصالح طبقةٍ تمتلك سلطةَ التأثير الكبيرة في نموّ هذا المجتمع، وهذه الطبقة هي سلطة العسكر من الصف الأوّل، الذين ارتدى معظم قياداتهم الزي الرسمي مع ربطات العنق الهادئة، لا البدلة العسكرية المُستعدّة للقتال، ثمّ حصّنوا أنفسهم وجوهاً سياسيّةً وبدأوا بالقضاء على المستقبل والحاضر، من خلال تجنيد الأقلّيات واللّعب على خوفها من الصراع الوجودي، مع التلويح المستمرّ بأيام الانقلابات العسكرية ونتائجها بعدم الاستقرار، وأخيراً شمّاعة أحداث الثمانينيّات، ومصير كلّ من يعارض هو الرمي في سجن تدمر أو في أحد السجون السياسية الأخرى القاتلة.
من صور الرئيس في صفوف المدارس التعليمية في سورية، مروراً بصوره في المؤسّسات التابعة للدولة كلّها، وغير التابعة لها رسمياً، تشكّلت لوحة الخوف المُتحرّكة، التي تُعبّر عنها افتتاحية التربية العسكرية في المدارس، كانت محفورةً في أدمغة الطلاب، على نحو “بما أنّ قوّة الجيش في نظامه فيقتضي على الرئيس أن يحوز طاعة مرؤوسيه التامّة وخضوعهم في الأوقات كلّها، وأن تنفّذ الأوامر بحذافيرها من دون تردّد أو تذمّر، والسلطة التي تصدرها هي المسؤولة عنها ولا يحقّ لمرؤوسٍ أن يعترض حتّى ينفّذ ما أُمِر به”. وكان على طلّاب سورية جميعهم حفظ هذا الكلام، والالتزام به في كلّ مدارك أفكارهم موجّهاً عقائديّاً، فالرئيس هو كلّ شيء، حتّى ليشعر المرء بأنّ جملة “إلى الأبد.. إلى الأبد يا حافظ الأسد” تعاني من التوكيد في بدايتها، بسبب عدم دقّتها المعنويّة؛ لكنّها تلخّص ظهور السلوك العدمي وهو يُجدّد شبابه في فِكَر الأفراد الصغار، بينما يتحوّلون جنوداً في أعماقهم تحت نظامٍ شموليٍّ عسكريٍّ.
ثمّة أشياءُ لا حاجة لشرحها وتفسيرها، حين تحدُث تصبح سلوكاً، وتُعلِن بطريقة ما نهاية واقع وبداية واقعٍ أكثرَ قسوة. هذه النظرة الجاهزة لدى السلطة الاجتماعية برعاية الدولة هي من تبتكر الأحداث وتخترع الأعداء في شاشات إعلامها فقط، ثم تصنّفهم، وتصنع الواقع الجديد من دون النظر إلى مصالح الأفراد، حتّى لو لم تتقاطع فِكَرُهم مع فِكَر أولئك الأعداء المُفترَضين في نظر السلطة. لننظر مثلاً إلى الدين السياسي في سورية، والذي أظهر علّة الفكر الديني في المنطقة، إذ لم يخضع لمراجعات نقديّةٍ جادَّةٍ، يمكن أن تعكس بالفعل مدى جدواه في الحياة العملية، إنّما بقي في تعالٍ واستكبارٍ، وأصبحت مظلوميته تتعاظم إعلاميّاً أكثر من النتائج الجوهرية، وأثرها في أفراد المجتمع، فخسر معركته ضدّ العسكرتارية، ووُصِم كلّ من يعارض نظام الحكم في سورية منذ عقود بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، حتّى لو كان المُعتقَل السياسي يسارياً، من رابطة العمل أو من غيرها من الأحزاب، التي لا تمارس أيّ معتقدات دينية في نشاطها ضدّ النظام، إنّما تهمتها الحقيقية أنّها مُعارَضةٌ فرديّةٌ ضدّ مجتمع النظام (!)
تنطلق قراءة الوقع السوري من نقطة فهم السلطة وعلاقتها بالإنسان السوري من تفهّم التركيبة الاجتماعية لعادة الرضوخ والحاجة، فالمثل اليوناني القديم صنّف “الحاجة” و”العادة” من طغاة الحياة الثلاثة إلى جانب “القانون”، والسلطة في سورية تبرع في تكريس تلك العناوين، لتكون نقطةَ ضعفٍ للفرد، إذ تحوّلت الخدمات الواجب تقديمها للمواطنين، بوصفهم سكّان البلاد الذين اختاروا حكومتهم ورئيسهم، هباتٍ ومكرماتٍ أنقصت قيمة الفرد، أكثر فأكثر، حتّى بات الفردُ مُجرَّد مادّة ساخرةٍ تتناسل في الكوميديا والدراما التلفزيونية، كان الجميع يشاهده بذهول، وأكثر من كانوا يضحكون عليه هم الطبقات الحاكمة في سورية.
كانت مقدرة الفرد في التفكير تتراجع أمام تكريسه جزءاً من آلةٍ خدميّةٍ لمصالح طبقةٍ تمتلك سلطةَ التأثير في نموّ المجتمع
لقد أنتجت أبوّة السلطة تلك الراحة لدى مئات آلاف السوريين، والراحة هنا تعني الأمان، الذي بدوره يشير إلى ضرورة أن يشعر الفردُ بأهمّية ما لديه من طمأنينة وتوفّرٍ للقمة العيش وبعض الخدمات الخجولة، ليصل إلى ذلك اليقين بالنِعَم التي حوله، كان لابدّ أن يخاف من فقدانها، وعلى هذا النحو جعلت سلطة النظام، أي المجتمع، من سلطة الفرد مُجرَّد مساميرَ تثبّت فيها خيام المعسكر الواحد، الذي سوف يُربّي السوريين على الخوف الدائم من الموت، مع الانغماس الآمن بالصمت القاهر طاعةً للنظام.
كانت الأجواء تحتقن في المجتمعات العربية قبيل اندلاع الثورات، منذ 15 عاماً، وربّما سيطر الشعور بالدونيّة على الفرد في سورية، ما أدّى إلى انتقال عدوى الاحتجاجات وتحطيم الأنظمة إلى مخيلته، لينتفض. هنا استطاع السوريُّ الرافضُ للنظام أن يتخلّص من سلطة المجتمع، شكلياً فقط، لأنّ مفاهيم تلك السلطة (العميقة) بقيت عالقةً في ماهيّة سلطة الثورة الجديدة، التي ربّما لم تُعِدْ للفرد اعتبارَه تماماً، إنّما تراجع تأثيرها بسبب أفعال التهجير الممنهجة، أداة نظام الأسد في تعزيز سلطة المجتمع القديم بالقوّة إيّاها، التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال. والسؤال هنا لطرح فكرة (سيحاول الكاتب الإحاطة بها قريبا): تُرى هل كوّنت العسكرتارية في سورية مأزقاً للثورة لافتقارها قوّةً اقتصادية وعسكرية موازيةً لما يملك النظام؟ هل كانت الثورة في سورية اختباراً جديداً أخضع سلطةَ الفرد لتهميش سلطوي ناشئ اسمه “اللجوء”؟
Sorry Comments are closed