منذ وصوله إلى السلطة، أبدى مؤسس الدولة الأسدية حرصاً واضحاً على الهندسة الخارجية لمؤسسات الدولة، بحيث تظهر هذه المؤسسات إلى العلن وفقاً للنموذج الحديث لمفهوم الدولة، وذلك من خلال العناية الشكلية بالسلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية.
إلّا أن تلك المؤسسات التي تبدو كأعمدة ثلاثة تنهض عليها الدولة، كانت مرهونة من حيث فاعليتها بإرادة حديدية محكمة. فهي متماسكة البنيان مستوفية الشروط الشكلية، لكنها خاوية من الناحية الفعلية.
مجلس الشعب، والمفترض أن يكون هو مصدر التشريع، فضلاً عن كونه منبثقاً من الشعب وممثلاً له، هو نموذج لهذا البناء المؤسساتي الذي رسّخه حافظ الأسد، الذي وضع مفاتيح أبوابه بيده شخصياً، يُدخل من يشاء إليه ويُخرج من يشاء.
حين يكون عدد أعضاء مجلس الشعب 250 عضواً، يجب أن يكون 167 منهم، من أعضاء حزب البعث الحاكم، أو من في عداد أتباعه (أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية)، ليبقى 83 عضواً من باقي فئات الشعب، ودخول هؤلاء للمجلس ينبغي أن يخضع لعملية فلترة، أي يختارهم الحاكم وفقاً لمعايير عدة أهمها: الولاء، شراء الذمم وإقامة التوازن العرقي والديني والطائفي والمناطقي والعشائري وحتى الأسري.. وبالتالي، فإن الوصول إلى عضوية مجلس الشعب في ظل الدولة الأسدية، هو امتياز يمنحه الحاكم، باعتبار العضوية ستغدو مدخلاً للفائدة والتقرب من أصحاب القرار. أضف إلى ذلك أنه لم يكن مطلوباً من أي عضو أن يكون معبّراً حقيقياً وفاعلاً عن الشريحة التي يمثلها، بقدر ما هو مطلوب منه الموافقة المطلقة على ما تريد السلطة شرعنته.
وعلى الرغم من عملية الإفراغ الشنيع هذه لهذا الكيان البرلماني، وتحويله إلى مسرح ينتصب فيه ممثلون مشوهون ومشلولو الإرادة والقدرة، فإنه ظل خاضعاً خضوعا مباشراً للسلطة التنفيذية، بل ولدوائر المخابرات التي لا يتم ترشّح أي عضو إلّا بتزكيتها أو بناءً على تحرياتها لضمان ولائه للنظام الحكم. ومن هنا تبدو المفارقة مخزية، حين تكون السلطة التشريعية فاقدة لوظيفتها، بل تحولت مضامينها السيادية، كمصدر للتشريع، إلى أدوات بيد السلطة الأمنية التي تمسك وتتحكم، وحدها، بجميع مفاصل الدولة.
كذلك، لم يكن حال السلطة القضائية أفضل من حال نظيرتها التشريعية، ولعلنا لا نستغرب حين نسمع أن المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى هيئة قضائية، يرأسها رئيس الجمهورية، فما الذي سيبقيه الرئيس للقضاء والدستور والقوانين المتفرعة عنه، حين يضع يده على أعلى سلطة قضائية في البلاد؟
لقد سعى حافظ الأسد باعتباره رئيساً للجمهورية ورئيساً للسلطة التنفيذية إلى إحكام قبضته على السلطتين التشريعية والقضائية، والسيطرة على السلطة التشريعية من خلال سياقين:
الأول، من خلال دستور 1973 الذي منح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة في إصدار مراسيم تشريعية خارج انعقاد دورات مجلس الشعب، كما أعطاه صلاحية حلّ البرلمان، ما يعني توجيه جميع السلطات بما يحقق أهداف السلطة السياسية.
الأمر لم يتوقف على سنّ التشريعات وإصدار المراسيم، إنما تعداه في السياق الثاني، للتدخل بتعيين أعضاء مجلس الشعب، رغم أن الدستور كان ينص على انتخابات ديمقراطية عبر التصويت والاقتراع، لكن عملياً كان يتم تعيين أعضاء مجلس الشعب بعدة وسائل وأساليب:
أولها، قائمة الجبهة الوطنية التقدمية، التي تحدد النسبة الأكبر من أعضاء المجلس الذين يتم ترشيحهم من قبل القيادة القطرية لحزب البعث، الذي يحوز على الحصة الأكبر من الأعضاء.
الأسلوب الثاني، من خلال تدخله بتعيين المستقلين وفئات العمال والفلاحين، ويتم ذلك من خلال الأجهزة الأمنية التي كانت تقوم بترشيح الأشخاص الأكثر ولاءً لرأس النظام وتعطي الموافقة عليهم.
ركز الأسد الأب على الشرائح المثقفة التي تدعم حكمه، بالإضافة للمشايخ ورجال الدين والعشائر والكتلة الدينية للطوائف الأخرى، كما لجأ لتحقيق نوع من التوازن الشكلي بين مكونات المجتمع العرقية والدينية والإثنية، واختيار شخصيات من فئات لها تأثير في الرأي العام، مثل الأدباء والكتاب والتجار والصناعيين والفنانين، إلا أن هذا التمثيل بالعموم لم يكن حقيقياً ولم تكن تلك الشخصيات تعبّر عن مجتمعاتها ومكوناتها.
لقد هندس الأسد الأب هذا الكيان البرلماني على الأسس نفسها التي بنى فيها كل المؤسسات الرئيسية الأخرى، من حيث الشكل طبعاً، حيث ينحشر فيها وفق حسابات دقيقة، ممثلو المكونات كلها، لدرجة أنه في عدة دورات بين عامي 1973 و2000، وجدت السلطات الأمنية نفسها في معضلات بسبب غياب مكون عن التمثيل، لأن الأمر لا يقتصر على الانتماء الطائفي أو العرقي أو المناطقي لمن يقع عليه الاختيار، بل والمهني أيضاً والجندري. بمعنى أن جداول أفقية توضع بجانب اسم كل عضو، والتزكية تذهب لصالح من يستطيع ملء أكبر عدد ممكن من حقول هذه الجداول: ذكر-مسلم-سني-حلبي-ريفي-عشائري-مهندس الخ… مع وضع الولاء أولاً وقبل كل شيء.
إلا أن هذا النموذج لم يكن مقدساً بطبيعة الحال، بل حصل في زمن الأسد الأب أن تم اختراقه كثيراً، لكن برضى أو أوامر منه شخصياً. لكن بعد استلام ابنه بشار السلطة، شهدت القاعدة خروجاً واسعاً عليها.
المهزلة الأكبر التي كشفت طبيعة هذه السلطة التشريعية، هي التي حصلت بعد وفاة حافظ الأسد، في حزيران عام 2000، عندما حصل تعديل سريع للدستور يتناسب مع مقاس ومواصفات الابن الوريث في عملية لا تمتّ للأصول الدستورية والتشريعية بأي صلة.
أما على صعيد الصلاحيات الحقيقية، فمجلس الشعب في سوريا مثل أي صحيفة رسمية أو خاصة، له سقف لا يمكن لأي من أعضائه تجاوزه، ومن يمكن انتقادهم أو مساءلتهم هم من مستوى الوزراء الخدميين وما دون ذلك، وهنا أستحضر ما حصل مع النائبين الدمشقيين رياض سيف ومأمون الحمصي، عندما طالبا بفتح ملف فساد شركة الخليوي التي يملكها رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، فكان مصيرهما السجن والتعذيب.
وهنا لا بد من الإشارة الى آلية اتخاذ القرار في مجلس الشعب، حيث كان يبلغ رئيس المجلس رؤساء المكاتب واللجان بالتوجيهات الصادرة عن القيادة العليا بخصوص القوانين التي يجب أن تعرض والقوانين التي يجب الموافقة عليها، ناهيك عن أنه في كل اللجان والمكاتب في المجلس يوجد عضو محسوب على الأمن، وهو من يقرر عن الجميع.
انتخابات المجلس هذا العام، والذي أدى أعضاؤه القسم قبل يومين، من دون حضور الأسد، رغم أنه عاد وحضر إلى مجلس الشعب الاثنين، كانت هي الأهم بالنسبة لرأس النظام، حيث تم اختيار الأعضاء بعناية تحضيراً لاستحقاق الانتخابات الرئاسية عام 2028، والتي ينص دستور 2012، بعدم أحقية بشار في الترشح لمنصب الرئاسة، ما يعني تحضير البرلمان لتكرار ما حصل عام 2000، وعليه تم التجديد لـ67 عضواً سابقاً، وإجراء تغييرات كبيرة في التمثيل الطائفي والعائلي. فقد لوحظ إضعاف دور شيوخ العشائر في المجلس، بالإضافة إلى الأخطر، وهو عسكرة هذه النسخة منه، فتم تعيين أكثر من عشرين ضابطاً من الجيش والشرطة والاستخبارات، بالإضافة إلى قادة ميليشيات مسلحة وأمراء حرب.
ثمة زعم بأن الفصل بين السلطات الثلاث هو مبدأ أساسي من مبادئ قيام الدولة في سوريا، ولكن ما ينبغي تأكيده أيضاً، أن تلك السلطات الثلاث هي محكومة بالمطلق لكيانات ثلاثة أيضاً تسلّطت على تلك السلطات، ونعني بتلك الكيانات المُتسلّطة: الدائرة الحزبية، دوائر المخابرات، ودوائر الجيش. فهذه الدوائر هي الحاكم الفعلي للبلاد، هي مصدر القرار والحكم. وإن أرادت تمرير أمر ما، فإنها قادرة على توجيهه بل وفرضه على مجلس الشعب، وبمجرد علم النواب أن القرار المذكور من الجهة الفلانية، فسرعان ما يتراكضون ويقفزون كالعصافير، حرصاً منهم على حيازة شهادة حسن سلوك من جهة الامتثال لما يريده الحاكم.
عذراً التعليقات مغلقة