في سوريا.. ثورة أم حرب أهلية؟

بكر صدقي22 أغسطس 2024آخر تحديث :
في سوريا.. ثورة أم حرب أهلية؟

أثار عنوان كتاب للباحث السوري سامر بكور لغطاً عنيفاً، إذا جاز التعبير، بين السوريين من البيئة المعارضة، بسبب عبارة «الحرب الأهلية» التي تضمنها، إلى درجة دفعت ببكور إلى نشر اعتذار على صفحته على فيسبوك، بلا أي استدراكات. ومع ذلك استمر الهجوم عليه بحدة، إلى جانب أصوات أخرى أكثر هدوءًا ناقشت الموضوع بعقلانية.
يعود العنف اللفظي في نقد الباحث و«ارتكابه» المفترض إلى أسباب عاطفية وسياسية. فمن جهة أولى يعز على أنصار ثورة الحرية والكرامة اختطافها منهم، على مستوى المفاهيم، لتحويلها إلى حرب أهلية تضيع فيها المسؤوليات من خلال توزيعها بالتساوي بين «أطراف متحاربة»؛ ومن جهة ثانية يستدعي توصيف الحرب الأهلية معالجات تختلف عن النتائج المأمولة من ثورة يرى بعض أنصارها أنها ما زالت مستمرة لأنها لم تحقق أهدافها بعد، فيما يرى بعض آخر أنها هزمت، لكنها قابلة للتجدد إلى أن تحققها.
واقع الحال أن ما جرى في سوريا، منذ شهر آذار 2011، يتضمن عناصر متنوعة يمكن بدلالتها الحديث عن مستويات عدة: ثورة شعب ضد نظام دكتاتوري، صراع مسلح بين نظام وفصائل ثورية مسلحة، لم يميز فيه الأول بين مسلحين ومدنيين عزّل، حروب أهلية موضعية، حروب وكالة، تدخلات واحتلالات أجنبية…
كذلك اتضح، بمرور الوقت، أن الثورة حملت مضامين وعناوين مختلفة وفقاً لمختلف الفاعلين، فثمة ثورة مدنية استهدفت إسقاط النظام الدكتاتوري بأفق ديمقراطي تحرري؛ وثورة إسلامية رأت في الديمقراطية كفراً؛ وثورة «روج آفا» كردية؛ إذا لم نتحدث عن ثورات أخرى فئوية أو جزئية كالنسوية وغيرها. وكل هذه الثورات مرت بمراحل، وتغير الفاعلون فيها، وتغيرت الاصطفافات، لكن النظام «بقي وتمدد» مقابل «دولة إسلامية» قامت وسقطت، ودويلة «سنية» في محافظة إدلب بقيادة «هيئة تحرير الشام» تناهضها ثورة مدنية محلية منذ أشهر.

الصراع في سوريا مركب بحيث لا يمكن اختزاله إلى أحد جوانبه. أما اختيار التسمية، ثورة أو حرب أهلية أو حروب بالوكالة، فهو يخضع غالباً إلى استراتيجيات سياسية وأيديولوجية

وفي محافظة السويداء ثورة مدنية سلمية ضد النظام، أكملت عامها الأول، استعادت شعارات ثورة 2011؛ وفي مناطق سيطرة الفصائل الموالية للجيش التركي انطلقت حركة احتجاجات سلمية منذ أوائل تموز، احتجاجاً على التقارب التركي مع نظام الأسد وعلى الهجمات العنصرية التي تعرض لها سوريون في مدينة قيصري التركية. أخيراً ثمة صراع مسلح بين تشكيلات عشائرية مدعومة من إيران ونظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية في المناطق الخاضعة لهذه الأخيرة.
الصراع في سوريا مركب بحيث لا يمكن اختزاله إلى أحد جوانبه. أما اختيار التسمية، ثورة أو حرب أهلية أو حروب بالوكالة، فهو يخضع غالباً إلى استراتيجيات سياسية وأيديولوجية. والميل الغالب لدى معارضي نظام الأسد هو التمسك بصفة الثورة، الأمر الذي يتيح ظهور مبادرات متجددة لاستعادة ثورة 2011، كمبادرة «المناطق الثلاث» مثلاً التي تحاول، إضافة إلى ذلك، تقديم بديل عن المعارضة الرسمية التي دخلت في دهاليز التفاوض العبثي مع النظام تحت مظلة ثلاثي آستانا، روسيا وإيران وتركيا، بلا ظهير شعبي أو دولي، فباتت مفلسة عملياً. كما تسعى «المبادرة» إلى مخاطبة السوريين بصفتهم هذه، بصرف النظر عن سلطات الأمر الواقع التي تحكمهم، النظام أو الإسلاميين أو قسد أو الفصائل التابعة لتركيا، فتراهن حتى على انفكاك القاعدة الاجتماعية الصلبة للنظام، أو كانت كذلك إلى ما قبل عام من اليوم حين ظهر التململ في تلك المناطق أيضاً، وانضمت بعض المجموعات فيها إلى إطار المبادرة.
قد يمكن الحديث عن هزيمة ثورة 2011، لكن الحركات الجديدة المشار إليها أعلاه تبرر الحديث عن استمرار روح تلك الثورة أو جذوتها، وبخاصة أن هزيمة الثورة لم يقابلها انتصار للنظام على رغم ادعائه بذلك، فهو غارق في أزماته البنيوية التي لا يمكن الخروج منها إلا بخروجه من المشهد، أي بالتغيير.
لا بد أيضاً من ذكر الابتذال الذي أصاب كلمة الثورة بفعل استخدامها وادعاء الانتساب إليها من قبل تيارات وأشخاص لا يربطهم شيء بمعناها التحرري، كالإسلاميين والمرتزقة الذين ترسلهم تركيا إلى ليبيا ونيجيريا وأذربيجان، أو روسيا للمشاركة في الحرب ضد أوكرانيا، أو قسد التي لها أجندة مختلفة و«ثورة» مختلفة. هذا الابتذال يدفع إلى الكثير من الحذر إزاء من يتفوهون بها ويعلنون انتماءهم إليها. كذلك هي حال أولئك الذين يدفعهم ولاؤهم لتركيا إلى محاربة قسد، منخرطين بذلك في حرب أهلية حقيقية في الوقت الذي يصفون أنفسهم بثوريين.
على أي حال يمكن مناقشة هذه الأمور، ثورة أم حرب أهلية أو حروب بالوكالة أو غيرها من التوصيفات، بلا عنف لفظي وتشنج لن ينتجا تحسناً في فهمنا لما أصاب سوريا أو مصائرها المحتملة. فالصراع في سوريا وعليها لم ينته بعد، وروح الثورة لم تخمد بعد على رغم هزيمة موجتها الأولى. لا شك أن التطبيع التركي مع النظام، إذا تم، بعد التطبيع العربي، سيغير الكثير من المعادلات في الصراع المستمر. كما أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تنته بعد، ومن شأن انتهائها على معادلات إقليمية جديدة أن يؤثر أيضاً على مجريات الصراع في سوريا. وكلاهما الآن طي المجهول.

المصدر القدس العربي
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل