وسط ضجيج المعارك التي تدور رحاها على جبهات الحقّ والباطل، وازدحام الفواجع بين السوريين، يأتي الواحد والعشرون من آب/أغسطس ليخنق ذاكرتنا العصية على النسيان، حين تفجّرت ينابيع دموعنا على مشاهد بثتها القنوات الفضائية لأطفال مقتولين بلا دماء، وسط صرخات استغاثة ما تزال تتكرّر كلّ عام مطالبةً بمحاسبة المجرمين على جرائمهم بحقّ الأبرياء.
يريدون بشتى الوسائل خنق الحقيقة، ومساواة الجلاد بالضحية، بل ويستنكرون مطالبة الضحية بحقّها في محاسبة قاتلها، يزعجهم صوت صراخها المخنوق، ويستمرؤون روايات القاتل الذي يهرول الجميع لمصافحته وتكريمه على الجرائم متعدّدة الأنواع.
في إطلالة بسيطة على مفهوم الحقيقة يُعرّف لنا الفيلسوف الفرنسي “أندريه لالاند” الحقيقة بأنَّ لها خمس دلالات:
- خاصية كل ما هو حق.
- القضية الصادقة.
- ما تمّت البرهنة عليه.
- شهادة الشاهد عمّا رآه أو ما سمعه.
- الحقيقة هي الواقع.
لنعد إلى ذلك اليوم من صيف العام 2013 في غوطتي دمشق الشرقية والغربية المحاصرتين من قبل ميليشيات الأسد، يوم الحادي والعشرين من آب/أغسطس، والذي كانت حصيلته 1144 قتيلاً، بينهم 99 طفلاً و194 سيدة، و25 مقاتلاً من المعارضة، وإصابة 5935 شخصاً بأعراض تنفسية وحالات اختناق سببه غاز السارين فضلاً عن المضاعفات النفسية وتشوّه الأجنة، ونستذكره بسياقاته ونتائجه، وأؤكد على سياق مهم وهو محاولة مستشارة بشار الأسد، بثينة شعبان، تحويل أكبر وأشنع مجزرة في الثورة السورية إلى طائفية.
شعبان لم تكتفِ باتهام المعارضة السورية بارتكاب الجريمة، بل زعمت أنَّ “المعارضة خطفت العائلات من قرى اللاذقية (ذات الطائفة العلوية) وأحضرتهم إلى الغوطة الشرقية بريف دمشق (ذات الطائفة السنية) وجمعتهم في مكان واحد واستخدمت ضدهم الأسلحة الكيماوية”.
حسب زعمها هذا، فهي لا تنكر جريمة الكيماوي، بل تقلب الحقيقة لصالح دعاية النظام الطائفية، رغم البراهين على دحضها جملة وتفصيلاً لا سيما استحالة وصول الثوار المحاصرين إلى الساحل وعودتهم، وابتهاج مؤيدي النظام في الأحياء ذات الأغلبية العلوية داخل دمشق بالمجزرة، ووزعوا الحلوى في الطرقات ورقصوا على أنغام الموسيقى الشعبية!
أعتقد أنَّ من أهم وآخر نتائجه، أنَّ محكمة الاستئناف في باريس صدّقت في 26 يونيو/حزيران 2024 على مذكرة الاعتقال الدولية الصادرة عن فرنسا بحقّ بشار الأسد بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الهجمات الكيميائية القاتلة التي وقعت في غوطتي دمشق عام 2013، وفق محامي الضحايا الذين وصفوا القرار بأنَّه حكم تاريخي.
إنَّ توجُّه عدد من ذوي الضحايا والمنظمات غير الحكومية إلى السلطات الوطنية لمحاسبة الجناة، جاء نتيجة عدم ممارسة أي محكمة دولية الولاية القضائية على مرتكبي هذه الجرائم التي استمرَّت بعد أن تبنّت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2118، الذي دعا إلى تدمير الأسلحة الكيميائية في سوريا ومحاسبة جميع مرتكبي هذه الهجمات، وأعلنت المنظمة في 4 يناير/كانون الثاني 2016 تدمير كافة الأسلحة التي أعلن عنها النظام.
وأشير هنا إلى ثاني أكبر مجزرة كيماوية في مدينة خان شيخون جنوب إدلب في 4 نيسان/أبريل 2017 كانت ضحيتها ما لا يقل عن 91 قتيلاً بينهم 32 طفلاً و23 سيدة خنقاً، وإصابة قرابة 520 شخصاً، من أبرز نتائجها الضربات الأمريكية لمطار الشعيرات العسكري شرق حمص إذ كان حدثاً استثنائياً، بعد المجزرة بثلاثة أيام.
سبقها ثلاث هجمات كيماوية على بلدة اللطامنة شمال حماة في 24 و25 و30 آذار/مارس 2017، تسببت بإصابة 106 أشخاص بحالات اختناق، حسب تقرير فريق تحقيق تابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية الصادر في 7 نيسان 2020، ثم ارتكب نظام الأسد مجزرة مدينة دوما بريف دمشق في 7 نيسان/أبريل 2018، حيث وثقت الشبكة السورية مقتل 43 مدنياً بينهم 19 طفلاً و17 سيدة، وإصابة قرابة 550 شخصاً، ومن نتائجها، تعرّض مطار التيفور العسكري شرق حمص لقصف جوي أمريكي بعد يوم من المجزرة، وجاء الردّ الأقوى من الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر حسابه في تويتر (X) واصفاً نظيره السوري بشار الأسد بـ”الحيوان”.
تؤكد قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ نظام الأسد نفذ 217 هجوماً كيميائياً، منذ ديسمبر/كانون الأول 2012 حتى آخر هجوم موثَّق في الكبينة بريف اللاذقية في مايو/أيار 2019، توزَّعت بحسب قرارات مجلس الأمن على النّحو التالي:
- 33 هجوماً قبل قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 27 سبتمبر/أيلول 2013.
- 184 هجوماً بعد قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 27 سبتمبر/أيلول 2013.
- 115 هجوماً بعد قرار مجلس الأمن رقم 2209 الصادر في 6 مارس/آذار 2015.
- 59 هجوماً بعد تشكيل آلية الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن رقم 2235 الصادر في 7 أغسطس/آب 2015.
بدروه فريق التحقيق وتحديد المسؤولية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية أكد في تقاريره الثلاثة المؤرخة في 8 أبريل/نيسان 2020، ثم في 12أبريل/نيسان 2021، ثم في 27 يناير/كانون الثاني 2023، أنَّ نظام الأسد مسؤول عن 5 هجمات كيميائية، إضافةً إلى تقارير التقدم المحرز الصادرة عن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والتي أكد آخرها في 24 يوليو/ تموز 2024 “أنَّ الإعلان المقدّم من النظام السوري لا يمكن اعتباره دقيقاً وكاملاً وفقاً لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، بالنظر إلى الثغرات وأوجه عدم الاتساق التي تم تحديدها والتي لا تزال من دون حل”.
فيما لم نرَ من مجلس الأمن الدولي سوى سجالات كلامية بين مندوبي واشنطن وموسكو، حيث استخدمت روسيا حقَّ النقض “الفيتو” أكثر من 18 مرَّةً، لمنع صدور قرارات عن مجلس الأمن بخصوص سوريا، منذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011 من بينها 6 قرارات ذات صلة باستخدام السلاح الكيماوي كان آخرها جلسة في 11 نيسان/أبريل 2018، لإسقاط مشروع أميركي يهدف إلى التحقق من استخدام الكيماوي في دوما.
وفي ذات السياق، اعتبر السفير البريطاني لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة ريتشارد كروكر، الفيتو الروسي سبباً أساسياً لإخفاق المجتمع الدولي في حماية الشعب السوري من نظام الأسد – قائلاً: “وهو إخفاق أدى إلى النّيْل من مكانة المجلس وإضعافه، ولا بدّ بالتالي أنه يُثقل على ضميرنا مجتمعين”. إضافة إلى أنَّ 29 دولة صوتت ضد قرارات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، في مقدمتهم روسيا، وفق تقرير الشبكة السورية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
يُقال: “إذا كنت محايداً في حالات الظلم فقد اخترت أن تكون بجانب الظالم وبعيداً عن الحق”. بعد صراع بين الحق والباطل للتأكيد على أنَّها ثورة شعبية عظيمة، وليست حرباً أهلية كما يروّج لها بعض المعارضين متذرعين بمعانٍ أكاديمية، نعيد تكرار شعار حملة “لا تخنقوا الحقيقة” التي أطلقها ناشطون سوريون في ذكرى هجوم كيماوي الغوطة في 21 أغسطس/آب 2020، لا تخنقوا حقيقة شعب أعزل ثار على الظلم والفساد، وتستبدلوا مطالبه المحقة بالمصالحة والجلوس مع القاتل.
في الذكرى 11 لمجزرة كيماوي الغوطة.. الشبكة السورية تطالب برفع قضية دولية ضد الأسد
Sorry Comments are closed