أجبرت الاحتجاجاتُ الطلابيةُ، التي تحوّلت ثورةً شعبيةً، رئيسةَ وزراء بنغلادش، الشيخة حسينة واجد، على الاستقالة من منصبها والفرار إلى الهند، منهية بذلك مرحلةً طويلةً من حكمها، امتدّت 15 عاماً، استندت فيها إلى دعم قادة الجيش وولائهم، وإلى ولاءات قويٍّة من فئات غنيّة وفاسدة في بنغلادش، وحاولت خلالها بناء صورة لنفسها تحاكي صورة المرأة القوية أو الحديدية، التي ترتدي لباس بلادها التقليدي المبهج في ألوانه، وتحكم بلداً يتجاوز تعداد سكّانه 173 مليون نسمة، وتحارب الإرهاب، وتنقذ ملايين البنغاليين من الفقر، في حين أن معارضيها اتهموها بتحويل بنغلادش مملكةً للخوف لا يأمن فيها المُعارِض السياسي البقاء في بيته، خوفاً من الملاحقة والاعتقال من عناصر أجهزة الاستخبارات والمُخبرين، وعملت طوال سنوات حكمها المديدة في القضاء على المكاسب الديمقراطية، والانتقال التدريجي إلى حكم الفرد والديكتاتورية، المشوب بالفساد والمحسوبية والقمع السياسي، ووظفت آلةً إعلاميةً ضخمةً من أجل تبرير القمع الذي مارسته، وبغية ضمان تحقيق هدفها الأوحد، المتمثّل في بقائها في الحكم أطول فترة ممكنة، أو بالأحرى إلى الأبد.
نظام حكم الشيخة حسينة مثال للانتقال من الديمقراطية إلى حكم الفرد، باستغلال ممارسات الديمقراطية التمثيلية ثمّ الإجهاز عليها
نظام الحصص
تعود الشرارة الأولى، التي أشعلت الاحتجاجات في الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، إلى قرار المحكمة العليا في بنغلادش إعادة العمل بما يعرف بـ”نظام الحصص” أو “الكوتا”، الذي أثار احتجاجاتٍ شعبيةٍ اندلعت في عام 2018 مع ظهور ما عُرف بـ”حركة إصلاح الحصص”، التي طالبت بإعادة النظر في هذا النظام، ما اضطرّ الحكومة في الأول من يناير/ كانون الثاني 2018 إلى إصدار تعميم يلغي هذا القانون، لكنّ المحكمة العليا ألغت التعميم الحكومي في السادس من يناير من العام نفسه، واعتبرته غير قانوني، الأمر الذي تسبّب في اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات واجهتها الحكومة بالقمع، وتمكّنت من إجهاضها في ذلك الوقت.
يمنح نظام الحصص عائلات المحاربين القدامى، الذين شاركوا في حرب استقلال بنغلادش عن باكستان عام 1971، نسبةً كبيرةً من المناصب ووظائف الخدمة المدنية (30%)، إضافة إلى منحهم امتيازاتٍ استثنائيةٍ أخرى. وقد وضع هذا النظام، قبل خمسة عقود خلت، رئيس الوزراء آنذاك الشيخ مجيب الرحمن، والد حسينة، من أجل تكريم قُدامى المحاربين من أجل الاستقلال، عبر ضمان فرص عمل لهم ولأفراد أُسرهم، إضافةً إلى الأشخاص القاطنين في المناطق الجغرافية النائية والفئات الأكثر ضعفاً، لكنّ هذا النظام فقد قيمته مع الزمن، فلم يعد يُشكّل أحفاد “المقاتلين من أجل الحرّية” سوى جزءٍ صغيرٍ من الشعب البنغالي، وتحوّل النظام وسيلةً لشراء الذمم والولاءات، وتمويل المحسوبيات السياسية لحزب رابطة عوامي (الحاكم)، ودعم أنصار حسينة، ومنحهم العطايا والمزايا، فيما يغرق أبناء الشعب البنغالي في مستنقع البطالة والفقر، الأمر الذي أفضى إلى تنامي الاحتقان والغضب بين أوساطهم.
لم تتوقّف حسينة عن دعمها الصريح نظام الحصص، الذي يُخصّص قرابةَ ثلثي الوظائف الحكومية للمحاسيب والمحظيين، بل كانت تتّهم المُحتجّين عليه بأنّهم خونةٌ أو بالأحرى من “الرازكار”، وهو مصطلح يُطلق على الذين تعاونوا مع الجيش الباكستاني خلال حرب الاستقلال. وقد أثار قرارُ إعادة العمل بقانون الحصص غضبَ قطاعات واسعة من البنغال، وأفضى إلى اندلاع احتجاجات جديدة وواسعة النطاق، كسرت جميع الخطوط الحمراء التي وضعتها حكومة الشيخة حسينة، وتصدّر الطلّاب مشهدها وقيادتها. ودفعت الاحتجاجات القضاء البنغالي، في 21 من الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، إلى اتّخاذ قرارٍ بخفض العمل بنظام الحصص من 30% إلى 5% فقط، واعتُبر هذا القرار بمثابة استجابة أو رضوخ لمطالب المُحتجّين، إضافة إلى أنّ الحكومة التزمت بعدم تعرّض الطلبة الذين قاموا بالانتفاضة لأيّ ملاحقات أو إجراءات قمعية، فساد هدوء في البلاد، استغلّته الحكومة لمواصلة حملاتها القمعية، ضاربة عرْضَ الحائط بتعهداتها ووعودها كلّها، فاعتقلت أجهزتها قادة الحراك الطلابي، فعادت الاحتجاجات بزخم كبير إلى الشارع البنغالي، وواجهتها الحكومة بقبضة قمعية حديدية، فاعتقلت ما لا يقل عن 5500 شخص، ونشرت 27 ألفَ جندي في جميع أنحاء البلاد، مع فرض حظر التجول وقطع خدمات الإنترنت. ولم تتردَّد أجهزتها القمعية في توجيه الرصاص إلى صدور المُحتجّين، وسقط خلالها ما لا يقلّ عن 400 ضحية. ولعلّ القمع الدموي الذي مُورس ضدّ المُحتجّين يأتي تتويجاً لنظامٍ تسلطيٍّ كان يتشكَّل في مدار قرابة عقد ونصف العقد.
الاحتجاجات الطلّابية كانت علامةً فارقةً في بنغلادش، فهي مطلبية ومعيشية
التحوّل إلى الديكتاتورية
يُقدِّم نظام الحكم الذي بنته الشيخة حسينة مثالاً للانتقال من الديمقراطية إلى نظام حكم الفرد والديكتاتورية، عبر استغلال ممارسات الديمقراطية التمثيلية، ثمّ الإجهاز عليها. فقد تأسّس بعد الاستقلال نظامُ حكمٍ برلمانيٍّ ينتخب فيه رئيس وزراء، فيما تنتخب الرئيس جمعية وطنية، بحسب دستور عام 1972، الذي ألغاه الانقلاب العسكري عام 1975، إذ انتقلت السلطة فعلياً إلى أيدي قادة الجيش، لكن البلاد شهدت اضطرابات مع فرض الأحكام العرفية في ثمانينيّات القرن الماضي، وتصدَّر الطلبة في عام 1987 حراكاً مناهضاً لحكم العسكر ونظام الرئيس الأسبق حسين محمد إرشاد، أجبره على تقديم استقالته في نهاية عام 1990، واستُعيد النظام البرلماني في عام 1991. ووقتها، نُظر إلى حسينة واجد بطلةَ الديمقراطية، فانتُخبت رئيسة للوزراء سنة 1996، وبقيت في منصبها حتّى 2001، ثم عادت إلى الحكم في عام 2008، لكنّها تغيّرت كثيراً في مستوى الممارسة الديمقراطية، فرفضت أشكال المُعارَضة السياسية كافّة، وراحت تتّهم جميع من يعارضونها بالتطرّف الإسلامي، الأمر الذي ساعدها في نيل دعم حكام الهند ودول غربية. ثم أعدمت سلطاتُ النظام البنغالي قرابة ألف شخص عام 2013 من المعارضين السياسيين، بينما يقبع في السجون أكثر من ألفي مُعارِض في انتظار تنفيذ أحكام إعدام صدرت ضدّهم. ولم يسلم من قمعه أساتذة جامعات، وحقوقيون، وصحافيون، وسواهم. كما لم يسلم من قمعه العلمانيون والإسلاميون، وطاول أيضاً محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام في عام 2006، بسبب إنشائه بنكَ غرامين لمساعدة الفقراء، ولجهوده الرائدة في محاربة الفقر والبطالة في بنغلادش.
يرى معارضو حكم حسينة أنّها لم تكن لتحكم طوال تلك الفترة كلّها من دون إسناد قادة الجيش ودعمهم، خاصّة أنّها عملت على تقويض النظام الديمقراطي من جهة، وإرضائهم من جهة أخرى. ففي انتخابات يناير/ كانون الثاني الماضي، فازت فيها حسينة بولايتها الرابعة على التوالي، قاطعت أحزاب وقوى المُعارَضة الرئيسة الانتخابات، فأعلن الحزب الوطني البنغالي اعتقال 20 ألفاً من أعضائه وأنصاره خلال الحملة الانتخابية، وسبق لأحزاب المُعارَضة أن قاطعت انتخابات عام 2014، أمّا انتخابات عام 2018 فقد أُجريت تحت أجواء قمع شديدة، ووجهت إلى الحزب الحاكم اتهامات واسعة بالتزوير، واعتبرت المُعارَضةُ أنّ من غير الممكن إجراء انتخابات حرّة ونزيهة في ظلّ نظام حكم حسينة.
المأمول أن تنتهي تضحيات البنغاليين إلى نظام سياسي يقوم على أسس ديمقراطية حقيقية ويحقق عدالة اجتماعية
طفرة لم تترجم
شهدت بنغلادش تحت حكم حسينة طفرةً اقتصاديةً كبيرةً، فقد تراجعت مُعدَّلات الفقر من 31.5% إلى 20.5%، كما ارتفع متوسّط نمو الناتج المحلّي السنوي الإجمالي بنسبة 7%، ووصل إلى ذروته عام 2021 حينما بلغ 8%، وأضحت بنغلادش، التي كانت من أفقر بلدان آسيا، واحدةً من بين أسرع خمس اقتصادات نموَّاً في العالم، كما احتلّت المرتبة 41 من ناحية الناتج المحلّي الإجمالي. لكنّ هذه الأرقام كانت تخفي بين طيّاتها أزماتٍ ومشكلاتٍ هيكليةً عميقةً، ولم تُترَجم إلى وظائف لخرّيجي الجامعات وسواهم. وتفيد التقديرات بأنّ نحو 18 مليون شاب بنغالي يبحثون عن وظائف، فيما يواجه خرّيجو الجامعات مُعدَّلات بطالة أعلى من أقرانهم الأقلّ تعليماً. وبحسب تقارير دولية، هناك من بين كلّ ثمانية شبّان في البلاد شابّ واحد على الأقلّ عاطل من العمل، كما أنّ ربع الباحثين عن فرص عمل في البلاد تراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، وذلك في ظلّ سوق عمل محفوف بالمخاطر والتقلّبات. كما أنّ أكثر من 40% من البنغال الذين تراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً لا يعملون ولا يتلقون التعليم.
شكّلت آخر احتجاجات طلّابية، تحولت ثورةً شعبيةً ضدّ حسينة، علامةً فارقةً في بنغلادش، ليس لأنّها ساهمت في إظهار قمع سلطاتها بتلك القسوة والشدّة فقط، بل أيضاً لأنّها كانت احتجاجاتٍ مطلبيةً ومعيشيةً أيضاً، أي ذات طابع اقتصادي في الدرجة الأولى، الأمر الذي ضرب صورة حسينة بوصفها صاحبة الإنجازات الاقتصادية التي انتشلت الشعب البنغالي من براثن الفقر والعوز، في حين أنّ قطاعات واسعة من هذا الشعب خرجت إلى الشوارع احتجاجاً على أوضاعها الاقتصادية المزرية، وعلى استشراء الفساد والمحسوبية، وعلى تحويل نظام الحكم والوظائف العمومية غنائمَ يوزّعها بين مُؤيِّديه على أساس الولاءات والمحسوبيات السياسية، وليس الكفاءة. لذلك، لم يكن “إصلاح” نظام الحصص كافياً لمعالجة الأوضاع التي لا تطاق، لأنّه بالإضافة إلى ما سبق كلّه، فإنّ نظام الحكم في عهد حسينة اتّسم بالتضييق والتخويف الممنهج على العاملين في جميع وسائل الإعلام، وتميّز بالسيطرة التامّة على جهازي الشرطة والقضاء، اللذين أصبحا أكثر المؤسّسات فساداً في البلاد. وأفضى نظام التسلّط في بنغلادش إلى تقسيم البنغال إلى قسمين، ينضوي تحت الأول الموالون والمؤيدون كافّة، الذين اعتاشوا على ما يُقدّمه نظام حسينة من مِنَحٍ ورعايةٍ ونفوذٍ، والذي مَنَحَ النافذين بينهم حقّ الإفلات من العقاب، فيما يشمل الثاني المُعارَضةَ التي واجهت حملات قمعٍ عنيفةٍ، وعقوبات بالسجن والتشريد، ولعلّ الطبيعة القمعية للنظام كانت أحد الأسباب العميقة لانطلاق الاحتجاجات ضدَّه.
قد يفتح فرار المرأة الحديدية إلى الهند صفحةً جديدةً في تاريخ بنغلادش السياسي، الذي تتقاذفه الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية والديكتاتوريات طوال عقود عديدة، والمأمول هذه المرّة أن تتنهي تضحيات البنغاليين إلى نظام سياسي يقوم على أسس ديمقراطية حقيقية، ويعمل على تحقيق عدالة اجتماعية. ولعلّ قادةَ الحراك الاحتجاجي يعون جيداً أنّ العسكر لا يُؤتَمن طرفهم، والمطلوب العمل على خروج بنغلادش من قبضتهم. لذلك، المهمّة ليست سهلةً، والطريق لن تكون مفروشةً بالزهور.
عذراً التعليقات مغلقة