الانتخابات الفرنسية 2024.. استمرار الانزياح نحو اليمين وتشظي النظام الحزبي

عبد الكريم بدرخان13 يوليو 2024آخر تحديث :
عبد الكريم بدرخان

بالرغم من كون فرنسا وبريطانيا جارتين تاريخيتين، وبينهما علاقات وشيجة تراوحت ما بين الحرب المعلنة إلى التحالف المعلن، إلا أن النظام الحزبي مختلف كليًا بين البلدين. يتميز النظام الحزبي البريطاني بالاستقرار، بينما يتصف النظام الحزبي الفرنسي بالتشظي والاستقطاب والتقلقُل المستمر.

نستخدم مصطلح النظام الحزبي (party system) في العلم السياسي كوصفٍ عام للأحزاب الرئيسة في البلاد، الحصة التي تحتلّها من البرلمان، الخلافات والتناقضات فيما بينها، والمصالح التي تمثّلها. ومن الأدوات المستخدمة لدراسة الأنظمة الحزبية:

1) التشظي (fragmentation) أي عدد الأحزاب في البرلمان؛

2)الاستقطاب (polarization) أي حدة التناحرات الإيديولوجية بين بعضها أو كلها؛

3) الانغلاق (closure) أي قدرة الأحزاب على التعاون فيما بينها؛

4) التقـلُّـب (volatility) في نتائج الانتخابات بين دورة وأخرى .

يتصف النظام الحزبي الفرنسي بعدم الاستقرار، والدلائل على ذلك هي:

أولًا؛ عدد الأحزاب في البرلمان (8 أحزاب في انتخابات 1978، 13 في 1997، 19 في 2017، 11 في 2022، و7 في 2024)، ومعظمها تحالفات حزبية تتألف في الواقع من أكثر من حزب. تاريخيًا لم تعرف فرنسا نظام الحزبين (كما في بريطانيا) بل نظام الكُتلتين: 1) كتلة الوسط واليمين وتتألف من الاتحاد من أجل حركة شعبية (UMP) والاتحاد من أجل ديمقراطية فرنسية (UDF). 2) كتلة اليسار وتتألف من الحزب الاشتراكي (PS) والحزب الشيوعي (PCF). لكن نظام الكُتلتين قد انتهى رسميًا عام 2017، مع تأسيس ماكرون لحزب “الجمهورية إلى الأمام” (En Marche) الذي احتل 53% من البرلمان عام 2017، و 42.5% من البرلمان عام 2022 ضمن تحالف “معًا” (Ensemble).

ثانيًا؛ لطالما كانت درجة الاستقطاب عالية في البرلمان الفرنسي، وهي من أسباب قيام الجمهورية الخامسة عام 1958. تاريخيًا كان الحزب الشيوعي هو الحزب الراديكالي الذي يصل إلى البرلمان وترفض أحزاب اليمين والوسط العمل معه. لكن منذ انتخابات 2022 حازت الجبهة الوطنية (NF) على 15% من البرلمان، وصارت هي الكتلة الراديكالية الوازنة التي تجد الأحزاب الأخرى صعوبة في التعامل معها.

ثالثًا؛ نسبة التقلب (volatility) عالية أيضًا. فمثًلا عندما أسس ماكرون حزب “إلى الأمام” (En Marche) وفاز في انتخابات 2017، تعرض الحزب الاشتراكي إلى خسارة فادحة إذ انخفضت نسبةُ تمثيله في البرلمان من 48.5% عام 2012 إلى 5.2% عام 2017. كما هبطت نسبةُ تمثيل الحزب الديغولي (UMP) من 33.6% عام 2012 إلى 19.4 عام 2017.

رابعًا؛ الانغلاق (closure): كيف سوف تشكُّل الحكومة الجديدة وتحظى بتأييد البرلمان؟ وسط الخلافات الكثيرة والحادّة بين أقصى اليمين واليمين الوسطي واليسار بتشكيلاته المتعددة.

كل ذلك يشير إلى أن النظام الحزبي الفرنسي من أكثر الأنظمة تشظّيًا وتقلُّبًا واستقطابًا.

الأسباب وراء عدم استقرار النظام الحزبي في فرنسا

أحبّ البدء بالأسباب التاريخية، فمنذ الثورة الفرنسية عام 1789 وبالبلاد تشهد تقلبات سياسية كبيرة. من بينها الانقلاب العسكري الذي قام به نابليون عام 1799، والانقلاب الذي قام به ابنُ أخيه لوي نابليون عام 1851. ومن بينها الاحتلالات الألمانية الثلاثة لفرنسا في أعوام 1871 و 1914 و 1940. ومن الأسباب التاريخية أيضًا الخلافات حول قضايا الاستعمار وتصفية الاستعمار، وهو ما أودى بدستور الجمهورية الرابعة. وتكفي الإشارة إلى أن فرنسا أصدرت 13 دستورًا بين عامي 1789 و 1958.

هنالك أسباب لعدم الاستقرار تعود إلى الأحزاب الفرنسية نفسها، فهي غير مُمَأسَسَة بشكل واضح وثابت. ففي كل دورة انتخابية تتغير أسماءُ الأحزاب وتحالفاتها، كما تتغير الفئات التي تتوجه إليها. فمثًلا حزب اليمين المحافظ (الديغولي) تحول إلى مُسمى “الجمهوري” تحت قيادة شيراك، ثم إلى “الاتحاد من أجل حركة شعبية” (UMP) عام 2002 بعد تحالفه مع قوى من الوسط. ثم تقدم الحزب إلى انتخابات 2017 تحت مسمى “الجمهوريُّون”، ثم إلى انتخابات 2022 تحت مسمى “اتحاد اليمين والوسط” (UDC).

حزب ماكرون (الوليد) غيّر اسمه ثلاث مرات، وهو اليوم حزب النهضة (Renaissance). ميلانشون الذي أسس حزب “فرنسا الأبية” (France insoumise) عام 2016، دخل انتخابات 2022 ضمن تحالف يضمن أحزاب يسارية وبيئية (NUPES) ليس من بينها الحزب الاشتراكي. كما دخل انتخابات 2024 ضمن تحالف “الجبهة الشعبية” الذي ضمّ الحزبين الاشتراكي والشيوعي وغيرهما.

بعد ذلك تأتي الأسباب الهيكلية والمؤسساتية، وعلى رأسها النظام الانتخابي. النظام الانتخابي الفرنسي لا يُنتج نظامَ حزبين (كما هو الحال في بريطانيا والولايات المتحدة) وذلك لسببين أساسيين: الأول هو عدد الدوائر الانتخابية المرتفع (577 دائرة)، وهذا ما يساعد الأحزاب المتوسطة على الوصول بسهولة إلى البرلمان. والثاني هو توزيع الاقتراع على جولتين، ما يسمح للأحزاب – بعد الجولة الأولى – بالتحالف والتنسيق فيما بينها، ومن ثم توزيع الدوائر الانتخابية فيما بينها. هذا ما حدث بالضبط في انتخابات 2024، ففي ظل الصراع بين ثلاث كتل انتخابية (أقصى اليمن – اليمين والوسط – اليسار)، غالبًا ما يكون التنافس في كل دائرة انتخابية بين ثلاثة مرشحين. وهنا اتفقت كتلة الوسط مع كتلة اليسار على توزيع الدوائر فيما بينها، حيث تذهبان إلى الصندوق بمرشح واحد مسنُودٍ بناخبي الكتلتين معًا في مقابل مرشح أقصى اليمين.

هنالك تفاصيل دستورية لا بدّ من إدراكها وفهم تأثيرها. النظام نصف الرئاسي في فرنسا يعطي للرئيس صلاحيات كبيرة، وهامش للحركة والاستقلالية (وهو ما يعرف بالديغولية). وحسب الدستور فإن انتخاب الرئيس يجري قبل ستة أسابيع من الانتخابات البرلمانية، ولذلك يُعرف مَن هو الرئيس قبل أن تُعرَف نتائج البرلمان. وهذا ما يدفع الناخبين عادةً إلى التصويت إلى الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس المنتخب حديثُا، وذلك لكي يحظى بتأييد برلماني وحكومي، ولتجنُّب الحالة المعروفة في فرنسا باسم “المُسَاكنة” (cohabitation)، وذلك عندما يكون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من حزبين مختلفين. وفي الحقيقة، لطالما دعم الناخبون الفرنسيون حزبَ الرئيس المنتخب حديثًا، مثل دعمهم للحزب الاشتراكي من أجل الرئيس هولاند عام 2012. وفي حال تمتّع الرئيس المنتخب بكاريزما وشعبية؛ فإنه يستطيع تأسيس حزب جديد يقلب به الطاولة على الأحزاب التقليدية، وهذا ما فعله ماكرون عام 2017.

وفي النهاية هنالك أسباب اقتصادية لعدم استقرار النظام الحزبي. تاريخيًا، كانت الأحزاب الشيوعية قوية وراسخة في الدول التي تعرض فيها العمّال إلى معاملة جائرة من قبل الرأسماليين، ومنها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. بينما ضَعُفت الأحزاب الشيوعية وتحولت إلى الديمقراطية الاجتماعية في الدول التي تحلّى فيها الرأسماليُّون بالبراغماتية، وكانوا أكثر قدرةً على المساومة والتسوية وإرضاء الطبقة العاملة، ومنها بريطانيا وألمانيا والنرويج.

وجود حزب شيوعي قوي في فرنسا هو الذي منع الحزب الاشتراكي من الاستئثار بحكم البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، إذ لم يتمتع الحزب الاشتراكي بتلك القوة التي لدى حزب العمال البريطاني أو حزب (SPD) الألماني لهذا السبب بالتحديد. رغم ذلك، بقي الحزب الاشتراكي قويًا، ولطالما صعد إلى الحكم بعد الأزمات الاقتصادية (ميتيران عام 1981 و هولاند عام 2012).

أما اليوم، فلم يعد الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار موجودًا، ولم تعد مصطلحات “يمين” و”يسار” تعني ما كانت تعنيه قبل أربعين عامًا. اليوم ثمة خطوط انقسام (نزاع) جديدة في الديمقراطيات الأوروبية، ومن خلالها يتمّ تفسير سلوك الناخبين الأوروبيين.

خطوط النزاع الجديدة في الديمقراطيات الأوروبية

نعني بخطوط النزاع (conflict lines)، أو ما نسميه في العلم السياسي (cleavages).

تاريخيًا، كانت خطوط النزاع الرئيسية في الدول الأوروبية هي:

– النزاع بين العمال وأرباب العمل (الانقسام الطبقي).

– النزاع بين الدولة والكنيسة (الانقسام العلماني).

– النزاع بين المركز والأطراف (الانقسام الثقافي).

– النزاع بين المدينة والريف (تعارض المصالح بين ملّاك الأراضي وملّاك المصانع).

لكن منذ السبعينيات، بدأت خطوط نزاع جديدة تطفو على سطح المشهد السياسي. ومنها خط الانقسام حول قضايا البيئة الذي تمثله أحزاب الخضر في مقابل مصالح أصحاب الشركات والمصانع، ومنها خط الانقسام حول مسألة الهجرة، معها أو ضدها؟ وخط الانقسام حول عضوية الاتحاد الأوروبي (الاندماج أم الانفصال؟)، وخط الانقسام حول الهوية الوطنية: هل هي هوية قومية أهلانية؟ أم هوية متعددة الثقافات؟! وكذلك خط الانقسام حول قضايا الحريات الشخصية، ومنها مسائل ذات حساسية دينية، مثل الإجهاض والمثلية والتحول الجنسي. وفي الاقتصاد… خط انقسام مهمّ حول الموقف من العولمة، وفتح الأسواق أو إغلاقها.

لاحظنا في السنوات الأخيرة، انقسام الناخبين الأوروبيين والأمريكيين إلى كتلتين متقابلتين في هذه المسائل:

1- كتلة تقليدية محافظة قومية: ترفض العولمة والاندماج الأوروبي، ترفض الهجرة والتعددية الثقافية، مهتمة بمسألة الهوية القومية والدينية، غير منفتحة كثيرًا تجاه قضايا الإجهاض والمثلية الجنسية، تدعم نموذج الأسرة التقليدي والأدوار الجندرية التقليدية، لديها نزعة سلطوية.

2- كتلة ليبرالية منفتحة ومتعددة الثقافات: تدعم العولمة والاندماج الأوروبي، ترحب بالهجرة وبالتعددية الثقافية، مسألة الهوية عندها مسألة فردية، وكذلك مسألة الهوية الجندرية والميول الجنسية. أكثر دعمًا لقضايا المرأة والمثليين وذوي الاحتياجات الخاصة والأقليات. لا تساوم في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهم الذين يدعمون فلسطين اليوم.

[أطلق ديفيد غودهارت وصفَ (Somewheres) على الكتلة الأولى، ووصفَ (Anywheres) على الكتلة الثانية].

أريد من ذلك القول؛ إن الفئات المتضررة من العولمة، ومنهم عمّال وفلاحون وصغار كسبة، أي الفئات التي يُفترض أن تميل نحو إلى اليسار؛ هي الفئات التي تصوّت لصالح حزب لوبان في فرنسا، ولصالح ترامب في أميركا، ولصالح أوربان في هنغاريا، ولصالح حزب القانون والعدالة في بولندا، وقد صوتت لصالح البريكست عام 2016.

ما يعني أن الانقسام التقليدي بين “يمين” و”يسار” لم يعد موجودًا، وأفراح “اليسار العربي” بنتائج الانتخابات التي تحدث هنا وهناك ليس له معنى. فإذا أخذنا مصطلحي “اليسار” و”اليمين” بالمعنى الاقتصادي التقليدي، فإن حزب لوبان الرافض للعولمة والاندماج الأوروبي، والداعي لسياسات اقتصادية حمائية، والذي تنتخبه الفئات المتضررة اقتصاديًا؛ هو الذي يمثل اليسار بمعناه التقليدي. [يقع على يسار ماكرون وحزبه على الأقل].

أما اليسار بالمعنى الحديث (الانفتاح على العولمة، دعم البيئة والمرأة والمثليين والمهمّشين، دعم الحرية الشخصية وحقوق الإنسان والديمقراطية، الترحيب بالهجرة والتعددية الثقافية…) … فتمثله معظم القوى التي تنضوي ضمن “الجبهة الشعبية” بقيادة ميلانشون، وجزء من قوى الوسط بقيادة ماكرون.

انتخابات 2024

تشير الانتخابات الفرنسية الأخيرة إلى استمرار انزياح النظام الحزبي نحو اليمين.

نلاحظ أن حزب التجمع الوطني (NR) بقيادة جوردان بارديلا (وهو الاسم الجديد للجبهة الوطنية المشهورة بحزب لوبان)، قد حقق فوزًا تاريخيًا بحصده 142 مقعدًا برلمانيًا، متفوقًا على النتيجة التاريخية – أيضًا – التي حققها قبل عامين عندما حصد 88 مقعدًا برلمانيا، وكذلك على النتيجة المتوقعة له عام 2017 عندما حصد 8 مقاعد برلمانية فقط. أي انتقل من 8 مقاعد برلمانية إلى 142 مقعدًا برلمانيًا خلال سبع سنوات فقط!

صعود مذهل لأقصى اليمين، أسبابه كثيرة من أهمها العامل الاقتصادي، والتضخم المالي المتصاعد منذ أزمة الكورونا إلى حرب أوكرانيا التي لم تُعرف نهايتها. في الأزمات المالية يتطرف الناس، ويبحثون عن كبش فداء داخلي (المهاجرون) أو خارجي (الاتحاد الأوروبي) لتحميله المسؤولية. الموقف من حرب أوكرانيا وسياسة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو فيها مهمّ أيضًا، إذ يوجد ضمن اليمين المتطرف تأييد لـ بوتين ولنموذج روسيا كدولة قومية استبدادية محافظة. وأخيرًا، تنامي الخوف من التطرف الإسلامي بعد العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة.

كما يرجع الانزياح نحو اليمين إلى الزلزال الذي أحدثه ماكرون في النظام الحزبي عام 2017، وذلك عندما أسس حزب “إلى الأمام” (En March) واجتذب آلاف الناخبين من اليمين والوسط، مما أضعف الأحزاب التقليدية مثل الحزب الديغولي. مشكلة الحزب الجديد أنه غير مستقرّ كمؤسسة، وغير مترسّخ في طبقات ومصالح اجتماعية واقتصادية معينة. إنه خيار “الوسط” لمن لا يرغب في أن يُوصَم باليمين أو باليسار. إنه حزب ماكرون وقد يختفي مع اختفاء ماكرون. يشبه في ذلك تحالف اليمين والوسط الذي قاده برلسكوني في إيطاليا على مدى 20 عامًا، ثم اختفى مع اختفاء الأب الروحي، لتصعد الفاشية وتحكم إيطاليا.

على جانب اليسار، تتألف “الجبهة الشعبية” من عدد من الأحزاب المختلفة فيما بينها حول قضايا جوهرية. وهذا ما يحوّلها أثناء الممارسة السياسية إلى أحزاب صغيرة غير مؤثرة (إيجابيًا) في البرلمان. بينما يغدو حزب التجمع الوطني هو الكتلة الثانية الأكبر بعد حزب ماكرون، وهو المنتصر فعليًا على اليسار بحُكْم تماسكه.

قد يتغيّر الأمر في حال تفاهمت أحزاب اليسار المنضوية ضمن “الجبهة الشعبية” على الخطوط العريضة للمرحلة القادمة.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل