من الطرائف على هامش مؤتمر القمة العربية قبل أيام أن معظم التأويلات ذهب إلى احتساب صمت بشار الأسد بادرةً إيجابية منه تجاه العرب، ما يتضمن ابتعاداً منه عن الحليف الإيراني، ثم أتى تعيين سفير للسعودية في دمشق مؤخراً وكأنه مكافأة له على صمته! وجه الطرافة، النادر وربما غير المسبوق، هو اتفاق معظم المتابعين على أن صمت الأسد بعدم إلقائه كلمة سوريا هو في مطلق الأحوال أفضل من المخاطرة بخطاب لا بدّ أن يتضمن زلة لسان ما، بل من المرجح أن تسيء الزلة المفترضة إلى جهود التطبيع العربي معه.
أتت بادرة الأسد المزعومة تجاه العرب بعد تكاثر التكهنات عن جفاء بينه وبين الحليف الإيراني، على قاعدة موقفه من الحدث الفلسطيني الحالي، إذ من الواضح أن الأسد نأى بنفسه كلياً عمّا يحدث في الجوار. الطريف مرة أخرى أن موقفه هذا احتُسب من بين إشارات إيجابية تجاه حكام عرب يصنّفون تقليدياً ضمن “محور الاعتدال”، وهكذا تُنتزع من الموقف أصالته كبادرة إيجابية تجاه إسرائيل ليكون بادرة إيجابية تجاه العرب، إذا كانت له اليد الطولى في قرارات وتوجّهات كبرى من هذا القبيل.
لا تلحظ فرضية مغازلة الأسد العربَ من خلال إسرائيل أن الاشتباك الإيراني-الإسرائيلي منضبط على الأقل من جهة طهران، وأن تحييد الأسد عنه يصبّ في حرص طهران على إبعاده عن غضب تل أبيب. أما الأخيرة فليس لها تحفظ على الأسد خارج نفوذ طهران عليه، واعتراضها الأكبر على النفوذ الإيراني مرتبط بتهريب الأسلحة إلى حزب الله لا بسيطرة طهران على مفاصل حيوية في سوريا. ونأيُ الأسد بنفسه عما يحدث في غزة هو استمرار لنأيه بنفسه عن الاشتباك الإيراني-الإسرائيلي على الأراضي السورية، فمن المعلوم أن الغارات الإسرائيلية على مواقع إيرانية في سوريا، خلال سنوات سبقت السابع من أكتوبر الماضي، لم تلقَ من الأسد سوى التنديد والاستنكار.
ثمة فرق بين التمنيات والواقع، ففي إطار التمنيات لا يُستبعد أن يرغب الأسد في علاقات جيدة مع العرب وفي الابتعاد عن طهران، لا حباً بهم ولا كرهاً بالإيراني، فالأمنية هي محصلة لظروفه ومنفصلة عن حسابات ومطالب المطبِّعين العرب معه. إذ من المنطقي أن يتمنى الأسد لو يجد مخرجاً سهلاً من ضغط الحليف الإيراني المسيطر على الكثير من المواقع السلطوية والميدانية، والمطالِب بما يزيد عن خمسين مليار دولار من الديون المستحقة له. نظرياً ليس من مقايضة مغرية كهذه؛ أن يتهرب من ضغوط الحليف ويحصل على مساعدات من العرب البعيدين جداً عن الميدان، ولم تكن لهم يوماً أنياب يهددونه بها ولن تكون.
والكلام عن استفادة الأسد من تزايد الضغط الإسرائيلي على المواقع الإيرانية في سوريا له نصيب من الصحة، إنما من دون مبالغة وشطط ما لم يتحول الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني إلى مواجهة كبرى يستهدف فيها الإسرائيلي النفوذ الإقليمي لإيران. كذلك هو حال الكلام عن استفادة الأسد إجمالاً مما يحدث في غزة، بحيث يكون نأيه عن الحدث بمثابة تقديم أوراق اعتماد لدى واشنطن وتل أبيب، فهذه الاستفادة تتناسب طرداً مع قوته وتأثيره لا أكثر.
يجدر التذكير بأن إسقاط الأسد ليس مطلباً إسرائيلياً ولا أمريكياً، ولم يعد مطروحاً عربياً منذ سنوات، أي أن ذلك منفصل تماماً عن الحدث الفلسطيني الحالي والمكاسب الإضافية الصغيرة التي قد يحققها من خلاله. هذه المكاسب مشروطة بإتقانه المشي على الحبل المشدود بدقة وحساب بين تل أبيب وطهران، مع التأكيد على أنه في موقع لا يسمح له باستثارة غضب أيّ من الطرفين، لأن الخطأ هنا وفي هذا التوقيت قد يكون مكلفاً جداً جداً.
المقصود تحديداً بالحسابات الدقيقة هي تلك التي تفرضها طبيعة الجانب المخابراتي من الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني، وقد شهدت دمشق واحدة من محطاته قبل ثلاثة أيام بتفجير سيارة ذهب ضحيته ضابط برتبة عميد في قوات الأسد، وأشيع أنه ضابط اتصال مع الإيرانيين وميليشياتهم في شرق سوريا. تكتّمَ إعلام الأسد على تفاصيل الحادث وكذلك فعلت طهران، ولم يتسرّب من تل أبيب ما يوحي بمسؤوليتها، ولم يُعرف تالياً ما إذا كان قد قُتل بسبب ارتباطه بالإيرانيين أو تمت تصفيته بسبب شبهات من نوع مغاير تماماً.
والحديث عن اختراقات استخباراتية إسرائيلية يجب أن يلحظ حدوثها على الجانبين اللبناني والسوري، وفي الداخل الإيراني أيضاً، أي أنها ليست حكراً على مناطق سيطرة الأسد والتابعين له الذين ربما تورّط بعضهم بالتواصل مع الأجهزة الإسرائيلية. المنطق يستوجب التشكيك بفرضية وجود تعاون مخابراتي على أعلى مستوى بين الأسد وتل أبيب، لأن هذه مخاطرة شديدة جداً تضعه في مواجهة طهران، ويُشكّ في أن تبقى سراً وفي ألا تفضحها ثمار التعاون بينهما.
ما هو معروف عن طبيعة النظام الإيراني يدفع إلى الجزم بأن ردّ فعله على ما يراه خيانة لن يبقى في إطار الضغوط التي يمكن تحمّلها، وعندما يتعلق الأمر بما يُرى في صلب الأمن القومي الإيراني فالثمن سيكون قاسياً جداً وباهظاً جداً، ومن طبيعة مختلفة عمّا هو مألوف بين الدول وحكّامها. في المقابل لم يعد الانخراط التام في المحور الإيراني بلا ثمن أو عواقب ضمن المواجهة الحالية، فصقور حكومة تل أبيب يلوّحون بردود ليست أكثر دبلوماسية مما هو متوقع من صقور طهران. هؤلاء يُنذرون بفائض القوة الذي لديهم حتى إذا لم يكن هناك من مبرر كافٍ لاستخدامه، وضعف الأسد مُغرٍ لهم إذا أخطأ وانزلق قليلاً عن التوازن الدقيق المطلوب منه.
لكي يبتعد الأسد حقاً عن طهران لا تكفي الإغراءات التي يُشاع أن العرب يقدّمونها له، فهو يحتاج معها “وربما من دونها” حمايةً لتغيير تموضعه، ومن نافل القول أنهم لا يستطيعون تأمينها له. في الأصل لا يمكن الحديث عن تغيير كهذا ما لم يكن مسنوداً بقرار أمريكي-إسرائيلي، وبتفاهمات دولية وإقليمية، ليس الآن أوان الدولية منها لأن العلاقات الأمريكية-الروسية الحالية لا تساعد على إبرامها، وحتى الأشهر الانتخابية المقبلة في الولايات المتحدة لن تكون في صالح تغيير من هذا العيار.
يقتضي التوازن على الحبل أحياناً ألا يأتي اللاعب بأية حركة على الإطلاق، وهذا يصلح كتشبيه لحال الأسد بين إسرائيل وإيران، أما فكرة الأسد القادر على اللعب على الحبال فينقص أصحابها أن يضعوا أمامهم خريطة تفصيلية للنفوذ في سوريا.
Sorry Comments are closed