النبي موسى والثورة السورية على نتفليكس

محمد السلوم26 مايو 2024آخر تحديث :
محمد السلوم

قبل عدة أسابيع أطلقت نتفليكس مسلسلا قصيرا من ثلاث حلقات هو خليط بين الوثائقي والدرامي، استعرض حكاية النبي موسى. مشاهد يؤدي فيها ممثلون أدوار موسى وفرعون وهارون، وجموع تمثل بني إسرائيل، ثم تعقبها حوارات لمختصين لاهوتيين من ديانات سماوية شتى، يستعرضون جميعا الحكاية مخلصين بأمانة للنصوص الدينية، دون نقد أو مراجعات تاريخيّة أو آثارية أو غير ذلك.

هذه المحاولة الفنية وحرص نتفليكس على تنويع الضيوف المختصين بشكل واضح؛ من إفريقيا إلى شرقي آسيا فالمنطقة العربية فأوروبا وأميركا، أسهمت كلها في جعل الشخصية التي يتم الحديث عنها شخصية عالمية.

محاولة نتفليكس نجحت في جعلي أشاهد قصة موسى وللمرة الأولى بوصفها قصة إنسانية بعيدا عن حمولتها الدينية، لا قصة قوم أرسل لهم الله عددا كبيرا من الرسل وكانوا دائما ينكثون بعهدهم له ويكفرون بالرسالات ويقتلون الرسل والنبيين ويستهزؤون بآيات ربهم، حتى باتوا الخيار المفضل لخطباء المساجد، في محاولة الفرار من الواقع وما فيه والتهرب من دورهم في قولة كلمة الحق أمام الحاكم، حيث يلجأ الخطيب إلى حكايات بني إسرائيل، وما أكثرها، ليعمل فيهم لسانه تقريعا ولعنا وشتما.

وسواء كنت مؤمنا عزيزي القارئ، ومسلّما بأن قصة النبي موسى قد وقعت بالفعل، أو كنت ملحدا رافضا أي نص ديني، وترى أنه محض حكاية من أساطير الأولين، فإنني أدعوك لقراءة قصة موسى بعيون سورية، بعيدا عن أي دلالات دينية، لنتعامل معها على أنها حكاية.. حكاية عتيقة ما زالت تروى منذ قرابة ألفي سنة.

حكاية ثورة قوم استُعبدوا على يد دكتاتور رأى نفسه ربّا، فسامهم عذابا وقمعا وحياة ذليلة مهانة، حياتهم في العبودية كان قد مر عليها سنوات طويلة إلى درجة أنهم ظنوها وضعا طبيعيا، ولذلك عارض بعضهم الخروج في تلك الثورة منذ البداية، قانعين بأن الحياة جيدة، ولا ينقصها شيء.

ولكن الحالمين بالثورة كان لديهم طموح آخر، طموح العودة، ويمكنك هنا أن ترى في العودة عودة حقيقية إلى أرض الأجداد أو عودة معنوية إلى الذات. لا بأس في ذلك، وكلتا العودتين تستلزم ثورة على الديكتاتور المستبد، والحصول على الحرية.

كنا عايشين

وككل دكتاتور، فإن الحرية لا تُمنح تفضّلا، بل تنتزع انتزاعا، وهكذا فشلت كل محاولات موسى للحصول على حرية قومه بالحُسنى، فرعون كان مخاتلا مخادعا يلف ويدور، منذ محاولته في بداية “الحراك الثوري” اللجوء إلى الحوار، الذي سرعان ما تبين أنه كان أكذوبة.

ومع فشل الحلول السلمية، بدأ العنف، كما في كل ثورة، عنف مخيف دفع فرعون ثمنه باهظا، من دمار لبلده واقتصاده، وانهيار في صورته كحاكم متألّه.

في نهاية المطاف نجح الأمر، ورحل بنو إسرائيل، ولكن هل انتهت الثورة؟ في الحقيقة لم تنته. بل سرعان ما نكتشف أن الخلاص من فرعون كان الجزء الأبسط، فقد بدأت التحديات، وأمام اللحظة الأولى، لحظة الشعور بالجوع وانتهاء حياة الاستقرار النسبية التي كان يعيشها الشعب في ظل الحاكم المستبد، أدرك بنو إسرائيل أن درب الثورة لن يكون مفروشا بالورود، بل بالمعاناة، فقالوا لموسى: “كنا عايشين”! أعلم أنك مستغرب ولا تصدق، حسنا، يا سيدي قالوا له ولهارون بحسب العهد القديم حرفيا عندما خافوا الجوع: “وقال لهما بنو إسرائيل ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع”. أرأيت؟ هي ذاتها “كنا عايشين”.

هل تنتهي أوجه المقاربة هنا؟ لا طبعا، بعد فترة قصيرة، وبعد حصول بني إسرائيل على مناطقهم “المحررة” المتخلصة من الدكتاتور المتألّه، سارعوا إلى البحث عن آلهة أخرى، وفي الوقت الذي كان فيه موسى يحاول وضع دستور جديد للجماعة الثائرة، عاد ليجدهم قد صنعوا آلهة من الذهب وغيره يعبدونها، آلهة أصغر بكثير من الدكتاتور السابق، وهي دون شك أصغر من “الحرية” التي كان يحاول موسى العبور بشعبه إليها. وهكذا دمر موسى الألواح التي كانت ستشكل ناظما للحياة الجديدة عندما اكتشف أن شعبه غير مستعد للحرية، واستطالت رحلة العودة التي كان من شأنها أن تستغرق بضعة أيام فقط، ودخلت الأمة في تيه مستحق، دام قرابة 40 سنة.

في حكاية موسى وفق القراءة السورية ستكتشف أن التيه لم يكن حدثا مفاجئا أو مقاطِعا لمسار الحكاية، بل كان هو العقدة والمقصد الحقيقي، والغاية من رسالة موسى، التيه الذي لم يكن ضياعا، بل كان بحثا عن الذات وتمحيصا ومحاولة استحقاق لما بعده.

لا موسى لدينا

موسى.. القائد الثوري، لم يحكم قومه مطلقا، لم يصبح ملكا عليهم أو رئيسا، بل يقال إنه مات وهارون قبيل انتهاء التيه، أو لنقل إنه مات مع انتهاء رحلة البحث عن الذات واستحقاق الخلاص، وهكذا أدى رسالته في أن يجد قومه ذواتهم وطريقهم نحو حريتهم. هنا لا يبدو موسى نبي فرعون، فمواجهته مع فرعون كانت مرحلة أولى كما قلنا، إنه نبي التيه، نبي مواجهة ذوات اعتادت العبودية والاستسلام للآلهة الكاذبة، ولذلك استغرقت مهمته كل تلك المدة، محاولا شفاء تلك الذوات من أمراض الاستبداد والدكتاتورية وتخليصها من تيهها الداخلي والوصول بها إلى خلاص الحرية.

أعرف أن محاولتي هذه ستواجه بغضب كثيرين، ورفضهم، ولكنني لم أستطع الهروب من صورة ثورتنا السورية وأنا أشاهد حكاية موسى، تبدو الصورة مشابهة جدا، مع فارق أن لا موسى لدينا، بل لدينا كثير من مصغرات فرعون، وكلهم لديه رسالة واحدة، لا أن يقودوا الشعب نحو الخلاص أو الخروج من التيه، بل أن يكونوا خلفاء للدكتاتور المستبد المتأله، مستخدمين أساليبه وأكاذيبه وتهديداته وعنفه وإجرامه ذاته، وأمام هذه الحال يصبح التفكير في الزمن الذي قد يستغرقه تيهنا السوري، أمرا مخيفا!

المصدر تلفزيون سوريا
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل