بخطاب إنشائي بائس كالعادة، خرج بشار الأسد على السوريين ليثبت وجوده، ويدافع عن صحة حكمه المتهافت لما حصل، ويحصل، في سوريا منذ أكثر من 13 عاماً؛ وليعلن استمراره في توجهه الحاقد الانتقامي ضد السوريين المناهضين لسلطته المستبدة الفاسدة المفسدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفساد قد بلغ في ظل حكمه إلى حد لم يعد هو بنفسه قادراً على تجاهله. وهذا الإعلان يأتي استمراراً لما كان يُقال في عهد والده الذي ادّعى محاربة الفساد؛ هذا في حين أن هذا الأخير تنامى وتغلغل في جميع المؤسسات، ليصبح الرابط المصلحي بين سائر المدافعين اليوم عن سلطة آل الأسد وشبيحتها، ويلقي الضوء على مغزى أبعاد الشعار الاستفزازي المافياوي: «الأسد أو نحرق البلد».
وقد تضمن خطاب بشار الأسد، كخطاباته المعهودة، تعريفات وتوضيحات مدرسية. ربما تكون مفيدة لطلاب الصف السادس الابتدائي، ولكنها لا تليق في جميع الأحوال بمقام من هم من المفروض أن يكونوا في مستوى قيادة حزب البعث؛ هذا الحزب الذي وصل إلى السلطة في سوريا في 8 آذار/مارس 1963 بانقلاب عسكري؛ ولكن، وكما يقول المأثور السوري: «هيك ناس بدهم هيك قائد».
كان من اللافت في خطاب بشار دعوته إلى التمسك بمفهوم الحزب البعثي العقائدي ليكون قادراً على مواجهة الحركات والتيارات العقائدية، خاصة الإسلاموية منها، متغافلاً عن جهل حقيقة أن أي حركة عقائدية، رغم الملاحظات الكثيرة حولها، تستوجب، لفرض هيمنتها الروحية على القلوب قبل العقول، وجود أشخاص على رأسها يجذبون الناس بسلوكياتهم وحججهم وقدراتهم الاقناعية. هذا في حين أن سلطة آل الأسد هي صحراء قاحلة في هذا المجال منذ أيامها الأولى، وهي السلطة التي باتت متحكّمة برقاب السوريين وأرزاقهم وكراماتهم وحرياتهم منذ أكثر من نصف قرن بقوة الأجهزة المخابراتية والعسكر.
أما تخريجات بشار المتناقضة بخصوص أهمية وضرورة وجود حزب البعث القومي، وقدرته على التعبير عن التنوع السوري وقومياً، وهو الذي مارس سياسة تمييزية عنصرية ضد سائر المكونات المجتمعية السورية لا سيما الكرد. كما رسخ أسس الطائفية السياسية، فإنما تشير إلى توجهه الجديد القديم في التغطية على تحالفاته الوثيقة مع نظام ولي الفقيه؛ كما أن هذه المزاعم الأسدية تأتي في صيغة التكتيكات الرامية إلى إخراج السلطة الأسدية من العزلة الإقليمية والدولية، وذلك ضمن نطاق الاصطفافات الجديدة التي ّتشكّلت، وتتشكّل، في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا، والإسرائيلية على غزة.
أما الوطنية الجامعة التي حاول بشار إفراغها من محتواها، فهي تتحقق من خلال أحزاب وتيارات وطنية تجمع بين المكونات المجتمعية التي يضمها الوطن جميعها، بعيداً عن جميع أشكال التعصب سواء الديني أم المذهبي أو القومي أو الفكري. أما بالنسبة إلى بهلوانية تحويل حزب البعث القومي، المتحالف مع نظام إقليمي اتخذ من الطائفية المذهبية وسيلة للتمدد والتوسع والتغلغل إلى أعماق مجتمعات ودول المنطقة لتخريبها من الداخل، إلى حزب وطني جامع، فهي مجرد عملية تضليل جديدة، هدفها التنصّل من الجرائم التي ارتكبتها سلطة آل الأسد بالشراكة والتنسيق مع النظام الإيراني وأذرعه المذهبية. وكل ذلك ضمن إطار لعبة إقليمية استهدفت العرب قبل غيرهم، وذلك على نقيض ما ادعاه بشار الأسد في خطابه المشار إليه.
أما الأمر الآخر المضحك المبكي الذي تناوله الأسد، فهو المقارنة التي أجراها بين اقتصاده المتهالك المنهار، والاقتصاد الصيني القوي المنتعش، رغم الكثير من التحديات التي تواجهها الصين راهناً؛ فهو ما زال يتوهم أنه رئيس كل سوريا، هذا في حين أن البلاد قد تحوّلت في واقع الحال إلى جملة مناطق محكومة بسلطات الأمر الواقع، وسلطته ما هي إلا إحداها. كما أن الفساد الشره، والاستبداد المتوحش، قد قطعا الطريق على أي أمل بإمكانية النهوض بالاقتصاد السوري في ظل حكمه، وحكم غيره من سلطات الأمر الواقع الأخرى التي تتقاسم موارد البلد، وتتحكّم بتجارته الداخلية والخارجية من جميع النواحي. كما أن الكبتاغون قد أصبح السلعة الأساسية بين الصادرات؛ بينما تشمل الواردات كل المواد الأخرى تقريباً التي تدخل إلى البلد بالعملة الصعبة لتكون مصدراً لدخل قوى الأمر الواقع ومافياتها بمسمياتها المختلفة. أما المواطنون السوريون فهم يعانون في جميع المناطق من ظروف معيشية غير مسبوقة من جهة السوء؛ هذا في الوقت الذي نرى فيه أن العملة السورية باتت عديمة القيمة، بل مجرد أوراق عادية يكدّسها المرء، ويتحمّل ثقلها وهو يحملها إلى السوق لشراء حاجياته البسيطة المعيشية الأساسية بأسعار خيالية.
أما كلامه الخاص باتهام المعارضة بالعمالة باعتبارها لم تطلق الصواريخ على إسرائيل، فهو لا يستحق حتى مجرد الرد والمناقشة، لأن الجميع يعرف من يملك هذه الأسلحة ومن لا يملكها.
والأمر ذاته بالنسبة إلى غيظه، الذي لم يتمكّن من كظمه، نتيجة تواصل النشطاء السوريين مع الكونغرس الأمريكي، فهو يلقي الضوء على خشيته الكبيرة من فاعلية الشباب السوري في مهاجرهم القسرية على صعيد إقامة العلاقات مع دوائر القرار والمنظمات الدولية، وذلك بهدف كشف الوجه الحقيقي القبيح لسلطة بشار الأسد، والمطالبة بمحاسبتها على الجرائم الكبرى التي ارتكبتها بحق السوريين.
ما تحدث به بشار الأسد أمام لجنته المركزية التي عيّنها تعييناً، وهي اللجنة التي لا تتمتّع بأي قسط من الحرية والسلطة قياساً إلى ما يتمتع به رئيس السلطة من صلاحيات وامكانيات للتدخل والهيمنة بفعل أجهزته الاستخباراتية الأخطبوطية، هو حديث لا قيمة له عند المواطن السوري، لأنه مجرد حديث لن يساهم في تغيير وضعه نحو الأفضل. بل كل الخشية، بناء على التجربة، بأنه مقدمة لفرض المزيد من التضييق على المواطنين السوريين في مناطق الموالاة نفسها، إذا جاز استخدام هذه المصطلحات النمطية التي لم تعد تناسب توصيف الواقع السوري في واقع الحال.
ومن باب المقارنة السريعة لا أكثر، أشير هنا إلى ما سمعته من قادة كرد عراقيين، ومن الرئيس مسعود بارزاني شخصياً حول الدعوة التي وجهها إليهم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، وبعد الانتفاضة الشعبية العارمة في كردستان وجنوب العراق، وفحواها رغبته في اللقاء بهم، وذلك في محاولة للتوافق على حل وسط تتجاوز الأزمة المستعصية التي كان النظام يعيشها، ويعاني منها العراق بصورة عامة.
وبعد مناقشات عميقة ومطولة استمرت أياماً، لم يتمكن الطرفان من الاتفاق، فعاد الوفد إلى كردستان ليستمر الخلاف والصراع بين الجانبين.
وفي سياق هذا الموضوع، يُقال إن بعضهم من المحيطين بصدام اقترحوا عليه قتل أعضاء الوفد، وكانت حجتهم في ذلك أنه يضم القيادات الكردية التاريخية، والتخلص منهم مؤداه توجيه ضربة قاصمة إلى النضال الكردي. غير أن صدام رفض العرض قائلاً: هم هنا في ذمتنا، فقد أعطيناهم العهود الخاصة بالحفاظ على سلامتهم، وعلينا أن نتركهم ليعودوا إلى ديارهم، وحينئّذِ سيكون لكل حادث حديث.
أما بشار الأسد، فهو منذ اليوم الأول اعتمد سلوكية التعالي على شعبه، واستخدام الألفاظ غير اللائقة في توصيف المعارضين لحكمه، وتعامله مع السوريين كل السوريين من باب الحقد والانتقام. يتنازل للآخرين الإقليميين والدوليين مقابل أن يقفوا إلى جانبه في الحرب التي أعلنها على الشعب السوري. فهو في حديثه الذي نحن بصدده لم يتفوه بكلمة واحدة بشأن معاناة السوريين اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا؛ كما لم يتطرق إلى المعاناة القاسية اليوم التي يكابدها النازحون في مخيمات الداخل.
ولم يتوجه إلى السوريين كل السوريين بخطاب مسؤول يتجاوز من خلاله دائرة الحقد والتشفي، ليدعوهم إلى الارتقاء فوق الجراح، والعمل المشترك من أجل إيجاد مخرج مقبول معقول للخروج الآمن من النفق المظلم، مخرج يضع حداً للآلام الناجمة عن الجرح السوري المفتوح منذ أكثر منذ نحو 13 عاماً.
وكل ما تقدم يؤكد انفصام بشار عن الواقع، فهو ما زال يتعامل مع الوطن وأهله تعامل الطفل غير السوي مع لعبته المفضلة في العالم الرقمي؛ وهي اللعبة التي تشغل مجمل ساحة تفكيره، وتمنعه من التفكير مجرد التفكير في تقديم الاعتذار إلى السوريين، إلى الثكالى واليتامى والمهجرين وذوي المغيبات والمغيبين، وإلى أهل سائر الضحايا.
ما يحتاج إليه السوريون هو حوار وطني حقيقي في مكان محايد خارج سوريا، بين أطراف سورية ــ سورية تشعر بمسؤوليتها التاريخية واستعدادها لاتخاذ القرارات الصعبة بعد كل الذي حصل، وبغض النظر عن التوصيفات والعصبيات. حوار يؤكد أن الشعب والوطن السوريين هما أكبر وأهم من الجميع على مستوى الأفراد والشلل والأحزاب والتيارات، وحتى على مستوى الانتماءات الدينية والمذهبية والقومية المجتمعية. حوار يلتزم المشروع الوطني السوري الذي يكون بالجميع وللجميع، ويطمئن كل السوريين من دون أي استثناء، ويضمن مستقبلاً زاهراً واعداً لأجيالنا المقبلة.
روحية الانتقام لن تجمع الشعب ولن تبني الوطن
Source
القدس العربي
Sorry Comments are closed