رغم اعتقاد الكثير من الناس بأن التكنولوجيا الحديثة قضت على عدد من المهن القديمة وحولتها إلى ما يشبه أساطير الأولين، إلا أن هناك العديد من الوقائع الدامغة التي تثبت لنا وبشكل لا لبس فيه، أن المهن التي قيل إنها انقرضت لازالت موجودة وبقوة، وذلك بعد تطور الأجيال وتمكّن ممتهني تلك المهن من إعادة حضورهم إلى المجتمع وبقوة، وعبر ذات البوابة التي أخرجت مهنتهم من التاريخ ألا وهي التكنولوجيا.
ومع وجود أمثلة كثيرة، سنختار المهنة التي نحتك بها بشكل يومي ولو جلسنا في بيوتنا دون خروج، وهي مهنة الحكواتي، هذه المهنة القديمة التي نقلت إلينا الكثير من الهبدات والمغالطات التاريخية وخرافات الأولين، بالإضافة لكمشة أمراض نفسية وعقدية لا يسعنا ذكرها هنا.
ولا شك أن التكنولوجيا التي غيَّبت هذه المهنة، فاتها أن من اعتاد الهرج والمرج في كلّ شيء لن يقبل بهزيمته وسيبحث عن الدواء من ذات الداء الذي أصابه، وكنتيجة طبيعية ها نحن اليوم نرى أتباع هذه المهنة يغزون مواقع التواصل الاجتماعي، وينقلون لنا الحكايا الخاصة بهم وبتاريخهم ونضالهم، ويتحفوننا بنسخهم ويبهروننا بلصقهم ليؤكدوا لنا أنهم دائماً معنا ويحملون همنا وقضايانا ويقطعون البر والبحر ليوصلوها للعالم بأسره.
ومع هذا النصر الساحق الذي أحرزه أصحاب هذه المهنة منذ عقد ونيّف كما يقول الأبله الذي نعرفه جميعاً، استطاع الحكواتية كسب المؤيدين والمريدين الضالين منهم والمهتدين وضمهم إلى ذات المهنة، لجعلها قوة تكسر التكنولوجيا التي مرَّغت أنفهم لعقود قبيل مجيء الربيع العربي.
ولأن المهنة وأصحابها عانوا من الظلم والتهميش في مرحلة بروز التكنولوجيا كبديل عنهم، فإن انتقامهم الآن لشرف المهنة بات أشبه بانتقام العباسيين من بني أمية بعد زوال دولتهم في المشرق، حيث نراهم يشنّون الهجمات على كلّ الخصوم، ويروون لنا قصصاً عنهم بعضها صحيح والآخر تلفيق.
ولأننا كشعوب عربية نحبُّ الفضائح والمعارك الجسدية والكلامية، فإننا نشعر بالحماس عندما نرى أحد الحكواتية يغرز أنيابه في لحم أحد أصدقائه أو خصومه، ويعضّه عضاً شديداً لا هوادة فيه، فنقوم بالتحزّب بشكل لا إرادي، فإمّا أن نؤيد الحكواتي وإمّا أن نقول له: توقف عن نشر السفاهة والأكاذيب سيدي الكريم، وبالمناسبة هؤلاء قلة.
ورغم الغزو الناجح لم ينتهِ الأمر هنا ولم يكتفِ الحكواتية الجدد بالأساليب السادية المستخدمة في الانتقام من خصوصهم، بل زادوا عليها باصطناع فئة ثالثة تدّعي الحياد ولكنها في الحقيقة تواليهم، ولا تخفي إعجابها الشديد بأحفاد شيوخ الكار “جماعة كركوز وعواظ”، فوظفوها واستفادوا منها عبر جعلها قوات رديفة، تمارس معهم مهنة العض العريقة، وتقطع لحوم خصومهم إلى أشلاء دون تردّد، وذلك لمعرفتهم بحالة العشق الحاصلة بين مواليهم والفضائح ومنشورات النسخ واللصق التي تنطلق من صفحاتهم.
وبناء على ما ذكر ومالم يذكر مما تعرفوه وعايشتموه، فإننا اليوم بحاجة ماسة للحذر والانتباه من “طائفة الحشاشين” الفئة الثالثة التي ذكرناها، لأنها قد تقوم باغتيالنا واغتيابنا وعضنا مع شيوخها الجدد “الحكواتية” دون رحمة، ضاربةً بعرض الحائط كلّ الاعتبارات والصداقة القديمة والقضية الواحدة.
Sorry Comments are closed