مَن ينقذ السوريين من العقوبات على الأسد؟

عمر قدور20 فبراير 2024آخر تحديث :
مَن ينقذ السوريين من العقوبات على الأسد؟

لا نعلم حتى كتابة هذه السطور مصير 744 أسطوانة غاز أعلنت وزارة النفط أن عمليات البحث مستمرة للعثور عليها، وكانت هذه الأسطوانات قد فقدت جراء السيول التي تعرضت لها محافظة اللاذقية قبل ثلاثة أيام، من بين 36238 أسطوانة غاز جرفتها السيول من “وحدة غاز سنجوان” لتعبئة الغاز التي توقفت بسبب تضرر تجهيزاتها. وكانت اللاذقية قد شهدت سقوطاً غزيراً للأمطار، تسببت بالسيول التي كشفت مثلاً عدم جاهزية فتحات تصريف المياه في الشوارع، وعن العديد من النواقص الخدمية التي تسببت بحدوث انهيارات طرقية وتأذّي السيارات وبيوت الطوابق الأرضية من الطوفان.

ورغم التعليقات الساخرة المريرة على صفحات محلية، غير معارضة، يمكن القول أن العاصفة المطرية مرّت بسلام قدر الإمكان. إذا استمر الوضع على ما هو عليه، لن يكون مضموناً في العام المقبل ألا تؤدي عاصفة مشابهة إلى أضرار أشد في اللاذقية أو حلب أو دمشق أو إدلب…إلخ. وهذا توقّع يخالف أيضاً المنتقدين الذين يرون أن السلطة لا تتخذ الاحتياطات اللازمة رغم تكرار الظواهر الطبيعية نفسها، وهو ما يكرره ناشطون في المعارضة بإلقاء اللوم على المنظمات الدولية التي لا تتخذ التدابير الوقائية لحماية السوريين في مخيمات اللجوء التي تتعرض كل شتاء للعواصف.

لا تبذل المنظمات الدولية جهدها لإنقاذ سوريي المخيمات، ولن يبذل الأسد أدنى جهد لتحسين أوضاع محكوميه؛ هذا تقرير للواقع فحسب. وكان الكونغرس الأمريكي قبل نحو أسبوع قد صوّت على قانون “مناهضة التطبيع مع الأسد”، وهو يمدد العمل بعقوبات “قانون قيصر” حتى عام 2032، ويشدد القانون الجديد تطبيق مختلف أنواع العقوبات الاقتصادية على الأسد لتكون أية صفقة تتجاوز قيمتها 500 ألف دولار تحت مجهر الرقابة الأمريكية، وكذلك أي تواصل سياسي فوق مرتبة السفير.

ما لم يحدث جديد يغيّر المعطيات، سيبقى سيف العقوبات مسلّطاً على الأسد وعلى الراغبين في التطبيع معه حتى قرابة تسع سنوات مقبلة. العبرة لا تكمن فقط في العقوبات المنصوص عليها في القانونين، بل أيضاً في الأثر النفسي للعقوبات، والذي سيدفع الدول والشركات إلى تحاشي شبهة التطبيع مع الأسد بعدم التعامل إطلاقاً مع المؤسسات التابعة له. وكانت الشهور الأخيرة، منذ طرح القانون الأمريكي في المسار التشريعي، قد شهدت حقاً انسحابات لجهات عربية متحمّسة للتطبيع وإنقاذ الأسد مالياً، والفترة ذاتها شهدت استمراراً في تدهور الأوضاع المعيشية يدل عليه توالي رفع أسعار المحروقات والكهرباء والخبز.

الحق أن الدفاع عن العقوبات الأمريكية بأنها تستهدف الأسد وزمرته، ومن زاوية عدم مساسها بأولويات السوريين من غذاء ودواء، هو دفاع غير دقيق لأن الأثر النفسي للعقوبات أوسع وأشمل بكثير من نصوصها. وقد يكون ضرورياً التذكير بأن العقوبات لم تؤدِّ من قبل إلى سقوط أية سلطة على شاكلة الأسد، بمعنى أن الرهان غير قائم على حالة غليان شعبي بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية تدفع إلى الثورة أو إلى تغيير في سلوك السلطة.

ولعلها مناسبة أيضاً لتفنيد تلك الفكرة التي يرى أصحابها في التدهور المعيشي مساراً يوصل إلى الثورة، بل يستغربون عدم ثورة السوريين حتى الآن رغم وصول السواد الأعظم منهم إلى ما دون خط الجوع. لقد ثار السوريون عام 2011، وهتفوا في تلك الأيام أن الشعب السوري غير جائع ولا يثور من أجل رغيف يقدَّم له كرشوة، ولا سرّ في الفارق بين الأمس واليوم؛ إنه الأمل الذي زرعته أيامها في النفوس موجة الربيع العربي التي بدا أنها انتصرت في تونس ومصر وليبيا. ببساطة شديدة، ربما تكون اليوم دوافع الثورة متراكمة أكثر من أي وقت مضى، باستثناء ما هو أساسي لجهة انعدام الأمل.

من الخطأ الظن أن العقوبات تؤثّر على الأسد وزمرته، وإذا كانت وسيلة للضغط على حليفيه في موسكو وطهران ليرغماه على تقديم تنازلات فالوقائع تقول أن حكم الملالي لم يقدّم تنازلات جوهرية تحت ضغط العقوبات الأمريكية، أما العقوبات الغربية على بوتين بسبب احتلاله شبه جزيرة القرم فلم تردعه عن غزو أوكرانيا لاحقاً. ومن أشهر العقوبات تلك التي فُرضت على نظام صدام حسين، وتولّت الصحافة الأمريكية “أكثر من غيرها ربما” تغطية بنائه قصوراً رئاسية فارهة جداً في أثناء العقوبات، كدلالة فاقعة على عدم اكتراثه بها.

لكن قد يفيد النموذج العراقي في لفت الانتباه إلى مخرج للكارثة السورية المرشّحة للتفاقم أكثر فأكثر، فمن المعلوم أنه نتيجةً لتدهور أحوال العراقيين تحت العقوبات أقرّت حينئذ آلية “النفط مقابل الغذاء والدواء”. ورغم ما قيل وقتها عن قصور تلك الآلية، وعن اختراقها من قبل نظام صدام حسين وفساد في المنظمة الأممية المشرفة عليها، رغم ذلك كله خففت تلك الآلية من وطأة العقوبات الدولية على كاهل العراقيين.

وأن تكون التجربة العراقية نموذجاً للاهتداء به فهذا لا يعني محاكاتها تماماً، بل من الضروري الانتباه جيداً إلى أوجه قصورها لتلافيها، وإلى أوجه اختلاف الحالة السورية عن نظيرتها العراقية. في طليعة الاختلافات الأساسية أن المطلوب على امتداد سوريا، لا تحت سيطرة الأسد فقط، لا يقتصر على الغذاء والدواء. فالملحّ بدرجة توازيهما دعمُ مشاريع التعافي المبكر، أي المشاريع الخدمية الأساسية والضرورية. المشاريع المتعلقة بتوليد الكهرباء والصرف الصحي والمدارس والمستشفيات؛ هذه جميعاً لا تُحتسب على الكماليات، وتوفيرها يجب ألا يدخل في بند إعادة الإعمار المشمول بالعقوبات الأمريكية.

بموجب قانون مناهضة التطبيع مع الأسد، العقوبات مستمرة تسع سنوات مقبلة، إذا لم يطرأ تعديل آخر يزيد في مدتها وقسوتها، ولا تلوح في الأفق بوادر توافقات دولية وإقليمية تدفع إلى الأمام بتسوية سورية. لعل هذا يجعل من الضروري جداً إنشاء آلية لتخفيف أثر العقوبات على السوريين، وهي آلية يمكن أن تبدأ بالسماح بتصدير النفط والغاز، ووضع الإيرادات في صندوق بإشراف دولي، لتُوزَّع بإنصاف على إغاثة السوريين ومشاريع إعادة التعافي في مختلف المناطق. وأغلب الظن أن الإدارة الذاتية الكردية التي تسيطر على معظم آبار النفط لن تمانع في ذلك، لأن هذه الآلية قد تتيح لها استفادة أفضل من الإيرادات الحالية القائمة على الاستهلاك المحلي والقليل من التهريب إلى مناطق سورية أخرى.

بخلاف التجربة العراقية، لن تفي إيرادات النفط والغاز بالمتطلبات الضرورية، وهنا يمكن لإنشاء صندوق سوري تساهم فيه الدول المانحة أن يسدّ العوز، خاصة الحكومات المتلهّفة للتطبيع مع الأسد. وعلى عكس ما أشيع عن التجربة العراقية، فقد يضع هذا الصندوق حداً للهدر الشديد الذي يرافق توزيع المساعدات الدولية هنا وهناك، فالدول المانحة تُعلن مع كل مؤتمر لها عن تخصيص مليارات من الدولارات التي لا يُلمس لها أثر على أوضاع السوريين خارج سيطرة الأسد أو تحت سيطرته.

بالطبع لن يكون الوصول إلى هذه الصيغة يسيراً مع كثرة الذين يملكون حق الفيتو في الشأن السوري، لكن لا تظهر في الأفق احتمالات أفضل وأقرب إلى التحقيق. بل إن تدهور الأوضاع في أكثر من منطقة وبلد في المنطقة والعالم سيؤثران سلباً على جهود الإغاثة الأممية غير الكافية أصلاً، ما ينبغي أن يدفع السوريين للمطالبة بمشروع يهوّن من الأهوال المقبلة، وإذا أمكن الوصول إلى صيغة متوازنة متكاملة فلن يخلو من فائدة سياسية أن تجمعهم مصلحة مشتركة بعد طول تشرذم.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل