منذ انطلاقة عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، لم تتوقّف إيران عن إعلانها المستمرّ البراءة منها، وأنه لا يدَ لها فعلية في ما خطّطت له ونفّذته حركة حماس، موازاةً مع الإفصاح عن موقفها المؤيد للحركة في مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي. ولم تتردّد الولايات المتحدة في نزع التهمة عن إيران، إذ تواترت التطمينات الأميركية تباعاً ببراءة طهران من أي دور في عملية طوفان الأقصى، مع إعلان موقفها الصريح الداعم إسرائيل من جهة، والمناهض للسياسة الإيرانية كداعم للقوى والمليشيات المناهضة لإسرائيل وفقاً لمنطق واشنطن.
نحن إذاً حيال موقف مركّب ينطوي لدى الطرفين (واشنطن وطهران معاً) على رغبة ضمنية بعدم المواجهة العسكرية المباشرة، بالتوازي مع رغبة ثنائية أيضاً باستمرار حربٍ يقودها “الوكلاء”، إلّا أنّ هذه الحرب ينبغي أن تكون منضبطةً لا تخرُج عن السياقات المرسومة لها، وفي الوقت ذاته، خاضعة للتحكّم الدقيق، كي تبقى قواعد الاشتباك شديدة المرونة لجهة قابلية التصعيد أو التهدئة. وهذه هي بالفعل الاستراتيجية التي التزم بها الطرفان، الإيراني والأميركي، في التعاطي مع حرب غزّة، ذلك أن أي تصعيد من القوى المرتبطة بإيران تجاه المصالح الأميركية أو الإسرائيلية يلقى ردّاً على المستوى نفسه من الطرف الآخر. لكن يبدو أن نزق بنيامين نتنياهو الناتج عن ازدياد الضغوط التي تحاصره داخل إسرائيل، وكذلك فشله في تحقيق أي منجزٍ عسكري في حربه على غزّة، دفعاه إلى كسر ضوابط الاشتباك وقواعده، فرفع وتيرة التصعيد ضد الذراع الإيراني الخارجي الأبرز، حين استهدفت الطائرات الإسرائيلية خمسة قادة ومستشارين من الحرس الثوري الإيراني في حي المزّة في دمشق في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، موازاةً مع استهدافها اثنين من قادة حزب الله في الجنوب اللبناني، الأمر الذي دفع طهران إلى الردّ على هذا التصعيد بتصعيد نوعي آخر، تجسّد باستهداف طائرة مسيّرة إيرانية قاعدة أميركية داخل الأراضي الأردنية، أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح أكثر من 30.
يمكن التأكيد على أن ايقاع هذا العدد من الضحايا الأميركيين يحمل في طيّاته نقلة نوعية في التصعيد، وهي ذات اتجاهين: يتجسّد الأول في أن الخسائر البشرية لم تكن من المقاتلين الوكلاء، بل هم جنود من الجيش الأميركي، الأمر الذي لم يعُد يتيح لإدارة بايدن التنصّل من المسؤولية أو غضّ الطرف، بل لعل الخيار الوحيد أمام هذه الإدارة هو البحث في سبل الردّ ولا شيء سوى ذلك، وأولى ملامح هذا البحث تجلّت بالاستنفار الذي بدا واضحاً في واشنطن، حيث الوعود التي أطلقها الرئيس بايدن بمحاسبة الجناة وهو يرتدي البزة العسكرية. أما الاتجاه الآخر لهذا التصعيد فهو ذو صلة بالجغرافيا، أعني انتقال النشاط العسكري الإيراني من مجاله التقليدي (العراق، اليمن، جنوبي لبنان، سورية)، إلى إيجاد مسرح جديد هو الأراضي الأردنية، إذ لم يعُد الأردن مستهدفاً بتصدير الكبتاغون والسلاح إلى أراضيه من نظام الأسد ومليشيات إيران وأذرعها فحسب، بل بات مُهدّداً بالاختراق الذي يحاول تقصّي المصالح الأميركية أينما وُجدت.
لم يعُد الأردن مستهدفاً بتصدير الكبتاغون والسلاح إلى أراضيه من نظام الأسد ومليشيات إيران وأذرعها فحسب، بل بات مُهدّداً بالاختراق الذي يحاول تقصّي المصالح الأميركية أينما وُجدت
وكان الأردن قد سعى طوال السنوات الثلاث الماضية إلى فتح سبل التطبيع مع نظام الأسد، في خطوة منه تهدف إلى تحاشي التغوّل الإيراني، مع الاعتقاد أن الوصول إلى استرضاء إيران واحتواء نزوعها العدواني والتوسّعي إنما يكون عبر المرور من بوّابة دمشق، ولكن يبدو أن نقل إيران عملياتها العسكرية في مواجهة أميركا إلى داخل المملكة هو إعلان إيراني صريح باستهداف الأردن، ليس من خلال المخدّرات فحسب، بل بتهديد أمنه بشكل مباشر أيضاً، وهذا ما كان واضحاً منذ بداية العدوان الصهيوني على غزّة، عندما طالبت المليشيات التابعة لإيران في العراق الأردن بفتح حدوده من أجل وصول عناصرها إلى فلسطين بذريعة الانتصار لغزّة، متجاهلة جبهة الجولان السورية التي تعجّ بعناصر تلك الفصائل، وجبهة جنوبي لبنان التي يسيطر عليها حلف المقاومة والممانعة بقيادة حزب الله، الذي يمتلك ترسانة صاروخية تزيد عن مائة وخمسين ألفاً من صواريخ أرض أرض التي يتجاوز مداها العمق الإسرائيلي بكثير، وهذا ما أدركته مبكّراً القيادة الأردنية التي طالبت الولايات المتحدة بتعزيز قواتها وقواعدها المتمركزة على أراضيها.
هل سيعيد الأردن على ضوء ما حصل حساباته في ما يخص التعاطي مع بوابة إيران (نظام الأسد)؟ وهل ستأخذ واشنطن بالحسبان القصف الإيراني على الأردن في سياق ردّها المفترض على طهران؟ وبالتالي، هل سيكون الاختراق الإيراني الحيّز الجغرافي الأردني مفصل تحوّل في قواعد الصراع التقليدي بين واشنطن وطهران؟
Sorry Comments are closed