فعل الرئيس بايدن ما لا يطيق بإعطائه الأوامر لتنفيذ غارات على مواقع للميليشيات التابعة لإيران في سوريا والعراق. إيران مستثناة من الانتقام الأمريكي لمقتل ثلاثة جنود في موقع “البرج22” في الأردن، وقد استهدف مواقع في سوريا والعراق تابعة للميليشيات، وقيل من قبل أن الأخيرة أعادت الانتشار فيها قبل الهجوم المرتقب. بمواكبة الغارات الأمريكية، كرر البيت الأبيض والمتحدث باسم مجلس الأمن القومي أن واشنطن لا تسعى إلى حرب مع إيران، رغم أن الطائرة المسيَّرة التي أودت بالجنود الأمريكيين إيرانية الصنع، والذين أطلقوها يأتمرون بأوامر طهران، ورغم أن مسؤولين أمريكيين لمّحوا من قبل “على صعيد متصل بالهجمات” إلى أن الحوثيين يهاجمون السفن الغربية بناء على معلومات استخباراتية إيرانية.
قبل ساعات من الغارات الأمريكية، كان هجوم صاروخي إسرائيلي قد استهدف منطقة السيدة زينب قرب دمشق، وأودى بأحد قادة الحرس الثوري الإيراني بعد أيام قليلة من استهداف مقرّ للحرس الثوري في قلب دمشق أودى بالعديد من القادة. وأن تقصف إسرائيل ما تتحاشىاه إدارة بايدن فهذا ليس توزيعاً متفقاً عليه بينهما للأدوار، بقدر ما يشرح قدرة واشنطن على استهداف مصالح إيرانية خارج إيران كما تفعل إسرائيل، إلا أنها لا تريد ذلك؛ لا تريد استفزاز طهران بالاقتراب من رأس الأفعى، بل تكتفي بالتصويب على ذيولها من أولئك المستعدين أصلاً للتضحية بأرواحهم.
كأنّ بايدن بذل كل جهده لإفراغ ردّه الاضطراري من الجدية، فالتمهّل الشديد بالرد أعطى لقادة ميليشيات إيران في العراق وسوريا فرصة إعادة التمركز والانتشار، وأعطاهم فرصة إعلان تعليق العمليات ضد القوات الأمريكية لمساعدته على التخفيف من قسوة ردّه المنتظر. كما أن التأخر في الرد يستفيد بطبيعة الحال من تراجع غضب الأمريكيين، وقد يستفيد من الأخبار المتفائلة بالاتفاق على هدنة في غزة، لتخرج طهران وقد نالت من هيبة أمريكا بثمن بخس.
وكي لا يُفهم إعلان تعليق عمليات الميليشيات الإيرانية ضد القوات الأمريكية “الذي سبق الغارات” على محمل الضعف، فقد كشفت مصادر عراقية لجريدة العربي الجديد عن أن قائد الحرس الثوري إسماعيل قاآني وعد رئيسَ الوزراء العراقي بالضغط على الفصائل المسلحة العراقية “التابعة لإيران”، من أجل التهدئة وإيقاف التصعيد والعمليات ضد الأمريكيين، مقابل الإسراع بعملية الحوار والتفاوض معهم من أجل إنهاء مهمة التحالف الدولي وإخراج القوات الأمريكية بشكل كامل من العراق وفق جدول زمني معلن. أي أن ميليشيات طهران في العراق وسوريا تريد تحقيق هدفها، حرباً أو سلماً. والهدف المعلن بوضوح شديد لا علاقة له بدعم حماس في غزة؛ الهدف هو إخراج القوات الأمريكية من العراق لتستفرد طهران به، وإخراجها من سوريا لينتهي الدور الأمريكي فيها لصالح طهران وموسكو.
لا يتوقف الأمر عند استغلال إيران الحرب على غزة لتفتح ما هو أقل من معركة ضد الوجود الأمريكي، بأهداف وغايات لا علاقة لها إطلاقاً بغزة. ما يحدث يتعدّى ذلك إلى ما يشبه تواطؤاً من إدارة بايدن مع المسعى الإيراني، من خلال اعتباره متصلاً بالحرب على غزة كجبهة وأهداف، والتغطية على البعد الثنائي للاشتباك وهو سابق على الحرب ومستقل عنها وإن بأدوات مختلفة. تريد إدارة بايدن تصوير صمتها على الاستفزازات الإيرانية كثمن لقاء عدم توسيع الحرب في المنطقة، وتصويره ضمناً كثمن يُدفع من أجل أمن إسرائيل، وهذه كذبة تتغذى من كذبة وجود رغبة لدى طهران في توسيع الحرب.
دخل بايدن فعلياً سنته الانتخابية للفوز بولاية ثانية، وإذا كان قد أخذ على سلفه “حماقة” الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران فإنه لم يفلح خلال ثلاث سنوات تالية على حكم ترامب سوى في تقديم الإغراءات بلا جدوى كي تقبل طهران بالعودة إلى الاتفاق السابق. لقد تجلّى تودد إدارة بايدن بصفقات إفراج عن سجناء نالت فيها إيران مليارات الدولارات من حساباتها المجمَّدة، أي أن الصفقة تمت بمنطق دفع فدية مقابل رهائن. وكان من قرارات الإدارة المبكرة شطب جماعة الحوثيين المدعومة إيرانياً من قائمة الإرهاب الأمريكية، بعدما أعلن بايدن إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن. في الغضون لم تتوقف طهران عن رفع معدلات تخصيب اليورانيوم بما يقترب علناً من المستوى اللازم لإنتاج أسلحة نووية، ولم تبدر عن واشنطن ردود أفعال تتناسب مع اهتمامها المعلن بالعودة إلى الاتفاق النووي!
منذ أن انقضت صدمة هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وبانت النوايا الإيرانية التي لا تتعدى التكسّب مما حدث، راح بايدن يتصرف كأنه واقع بين متطلبات الزوجة ومتطلبات العشيقة. وفق هذا يمكن فهم السعي الأمريكي إلى إنجاز ترسيم حدود برّي بين إسرائيل ولبنان، وهو مطلب يُرجَّح أن يوضع مقابل إنهاء الوجود الأمريكي في سوريا ولبنان، وبذلك يتحقق مطلب إسرائيل بإبعاد الحزب عن الحدود، ويتحقق مطلب طهران إذ تنال عملياً الاعتراف بمناطق نفوذها الممتدة من طهران إلى جنوب لبنان، من دون ربط مكاسبها الإقليمية بتنازلات في الملف النووي.
يحاول بايدن تسويق هذه الصفقة تحت يافطة صفقة ثانية هي إقامة دولة فلسطينية مقابل التطبيع بين إسرائيل والاقتصاديات العربية المغرية بالتطبيع، إلا أن إيجاد صيغة لدولة فلسطينية تقبل إسرائيل بوجودها يكاد يكون مستحيلاً. لذا قد تتمخّض المساعي الأمريكية، في حال نجاحها، عن أجواء تشبه أجواء انعقاد مؤتمر مدريد للسلام بعد حرب الخليج، تلك الأجواء التي أسفرت عن صفقات ثنائية دون الطموح الشامل الذي كان معلناً.
لقد تسلّطت الأضواء “عن حقّ بالتأكيد” على فداحة انحياز بايدن إلى حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل، رغم أن موقفه يتفق مع مجمل مواقف الإدارات السابقة الداعمة لانتهاكاتها بلا قيد أو شرط. لكن، في الحديث عن سياقات متواصلة، تجدر ملاحظة المكانة التي لإيران ضمن السياسة الأمريكية في المنطقة، خاصة من جانب الحزب الديموقراطي الذي وضع التفاهم مع طهران في صدارة أولوياته منذ ولاية أوباما الأولى، وتُرجم ذلك بتمدد النفوذ الإيراني على جثث عشرات آلاف الضحايا في أربع دول عربية. إن تقديم ثمن لطهران على جثث الضحايا في غزة هو استئناف لنهج أمريكي، ديموقراطي على نحو خاص، والذي لم يعد مستبعَداً هو أن تخرج طهران من ولاية بايدن بكل هذه المكاسب فضلاً عن حيازتها قنبلة نووية.
عذراً التعليقات مغلقة