تفصح المآلات الراهنة للحالة السورية عن مشهد شديد التعقيد يتداخل في تشعّباته تضارب مصالح الدول وتنافر السياسات وتشاجر الإيديولوجيا وأمور أخرى كثيرة، ولعل استمرار البؤس الناتج عن ديمومة الأزمة قد أتاح لمجمل المناظير الفاحصة لهذا المشهد – على اختلاف توجهات حامليها – أن تشخّص أدق التفاصيل، ولعل هذا ما يجعل سبل التوافق تلتقي بسلاسة في إطار التحليل والتشخيص، إلّا أن الأمر يبدو مختلفاً جدّاً حول سبل المواجهة والبحث عن المخارج المتاحة.
لعله من الصحيح أن السوريين قد أفلحوا في مواجهة الاستحقاق الأهم والأساسي في أجندة الثورة، أعني أنهم انتفضوا ببسالة وهزموا آلة القمع الأسدية وقد أفضت تضحياتهم وصمودهم طيلة السنوات الماضية إلى نزع النقاب كاملاً عن الانحطاط الأخلاقي والقيمي في منظومة السلطة الحاكمة، ولكن لعله من الصحيح أيضاً ان هذا المنجَز الشعبي السوري بقي في إطاره الثوري ولم يتحوّل إلى حيّز السياسة، فباتت التضحيات الهائلة ومجمل الرصيد القيمي للنضال الشعبي إرثاً يتيماً، بل متروكاً ليأخذ سبيله إلى الذاكرة الجمعية للسوريين، دون أن تتمكّن النخب السياسية كقوى وجماعات وأفراد من استلهامه، ومن ثم استثماره في حيّز السياسة، وبالتالي لا غضاضة من مواجهة الوقائع التي تؤكّد أن مشروع التغيير في سوريا قد تعثّر، و لعل أهم مظاهر هذا التعثّر تلاشي مفهوم فكرة الثورة – على مستوى الوقائع – وتحوّله إلى قضايا أخرى جزئية يُراد لها أن تكون بديلاً عن القضية الأم، ولهذا باتت القضية السورية في الأوساط الدولية عبارة عن مجموعة مسائل مبتورة عن جذرها الأساس، وأصبح العالم يتحدث عن مشكلة اللاجئين السوريين ومخيمات النزوح باعتبارها إحدى تداعيات الحرب الأهلية في سوريا، وكأن هذا النزاع الأهلي المفترض انبثق فجأة بين السوريين نتيجة احتقانات قومية وطائفية أو دينية ولا علاقة له بثورة شعب انتفض بوجه سلطة دموية اغتصبت حقوقه واستباحت حريته وكرامته على مدى عقود من الزمن، وحتى الدول العربية التي دعمت ثورة السوريين في بداياتها انتهت إلى مفاوضة الجلّاد، بل والتفكير بمكافأته إنْ هو قبلَ بإعادة ضحاياه من اللاجئين والنازحين إلى ديارهم.
وكذلك بات العالم يتحدّث عن الحاجات الإنسانية للسوريين بمعزل عن سياقها السياسي والقيمي، فتحوّلت بذلك مسألة فتح المعابر أو تمديد السماح بمرور المساعدات عبر المعابر الرسمية، إلى معارك حقيقية داخل مجلس الأمن، وبات استجداء الجلّاد وحلفائه الدوليين لقبول وصول الغذاء والدواء وبعض الحاجات الأساسية إلى ضحاياهم من السوريين منّةً كبيرة ومظهراً يستوجب الشكر والترحيب من جانب الكثيرين.
لا حاجة لمزيد من التفصيل في قضية المعتقلين والمخطوفين والذين لقوا حتفهم تحت التعذيب باعتبار هذه القضية تفوّقت على كل مظاهر الإنكار والتجاهل وأصبحت فاقئةً للعين
ولا حاجة لمزيد من التفصيل في قضية المعتقلين والمخطوفين والذين لقوا حتفهم تحت التعذيب باعتبار هذه القضية تفوّقت على كل مظاهر الإنكار والتجاهل وأصبحت فاقئةً للعين في شتى أشكال التوثيقات في عهدة الجهات الدولية والإنسانية، ومع ذلك فما يزال التعاطي مع هذه القضية دون مستواها الأخلاقي بكثير، بل يمكن التأكيد على أن أطراف المعارضة الرسمية السورية كانت رائدةً في بلادتها في هذا المضمار قبل سواها من الآخرين.
ما من شك في أنه لا يمكن التغاضي عن مجمل العوامل القاهرة لإرادة السوريين – كشعب أعزل في مواجهة كيان سلطوي مزوّد بكل وسائل القتل والإجرام ومجرّد من كل رادع إنساني – وما من ريب – أيضاً – في أن حجم التآمر الدولي والإقليمي كان فاقع الحضور في المشهد السوري المقاوم، ولكن يمكن التأكيد في الوقت ذاته على أن جميع تلك العوامل الموضوعية التي انبثقت من خارج الفضاء السوري ما كان لها أن تحقق حضورها، نموّاً وازدهاراً، لولا اتكاؤها على نواة أو نُوى سورية قابلة لاستنبات الوباء، وبتعاظم واستمرار الدور الذي أُوكِل إلى هذه النوى حوّلها لتكون جزءاً من المشكلة، بل كابحاً حقيقياً لأي مسعى نضالي أو وطني مهما كان متواضعاً. والذي لا ريب فيه أيضاً أنه على الرغم من كل هذا الإجهاز الدولي والإقليمي على مفاصل القضية السورية في موازاة اضمحلال الدور الوطني، فإن استعادة المبادرة لن تكون إلّا مهمّة سورية بحتة، ولئن كان لا بدّ من تضافر الجهود الدولية الفاعلة في المشهد السوري، فإن نجاح تلك الجهود والمساعي إنما هو مرهون بقدرة السوريين على أن يكونوا نواةً صلبة ودافعة أو مُحفّزة لهذا المسعى، وبناءً على هذا التصوّر يمكن النظر إلى العديد من المبادرات التي يبادر بها سوريون، أحزاباً كانوا أو منظمات مجتمع مدني أو أفراداً، بهدف تعزيز حضور القضية السورية على لائحة اهتمام المجتمع الدولي وكذلك بهدف التماس مخارج تنقذ السوريين من المقتلة الأسدية المستمرة منذ ثلاث عشرة سنة، إلّا أن اللافت في معظم تلك المبادرات هو أنها تتجه نحو مظاهر المشكلة وتشظّياتها وتتحاشى مواجهة جوهرها، ككثير من الدعوات التي ترى أن الحل يكمن في إقامة نظام فيدرالي في سوريا، من شأنه أن يحول دون تغوّل السلطة، بل ربما يسهم في تقليم أدوات بطشها وهيمنتها، والضامن لهذا المسعى هو دستور جديد. ومنها من يطرح توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة الحاكمة بضمانة ورعاية دولية، ومن شأن هذه العملية – إنْ تحققت – أن تتيح للسوريين مزيداً من الأمان كما تتيح لهم استثمار مواردهم الوطنية وتفتح المجال لعودة المهجرين إلى ديارهم وفقاً لأصحاب هذا الرأي، وتجدر الإشارة حيال هذا الطرح إلى أن نظام الأسد قد وضع بالحسبان ومنذ العام 2012 مشروع ( سوريا المفيدة) كاحتمال وارد التحقق، وكمخرج لاستمرار سلطته. ومن تلك المبادرات من ترى أن الحل يكمن بصياغة مشتركة بين السلطة ومعارضيها لدستور جديد، تليها عملية انتخابات جديدة في البلاد مع استمرار وجود بشار الأسد ورموز نظامه في سدّة الحكم، وهذه المبادرة تجسّد وجهة النظر الروسية، كما تتبنّاها الكيانات الرسمية للمعارضة السورية من خلال مساهمتها وتفاعلها في مسار اللجنة الدستورية. ولعل القاسم المشترك بين مجمل ما يطرح من مبادرات وحلول هو أنها تتحاشى حقيقةً فحواها: أن بواعث مأساة السوريين لا تكمن بأقدار الجغرافيا ولا بالتنوع العرقي أو الديني ولا بإرث ثأري سوري ناجم عن نزاع سكّاني ينتظر لحظة الانفجار، ولا بدستور يفتقر إلى مضامين تحفظ كرامة المواطن وتحول دون الاعتداء على حياته وحقوقه، بل تكمن في كيان سلطوي إبادي أثبتت الوقائع تفوّقَ وحشيته على جميع الدساتير والشرائع الإنسانية، وتجاوزَ إجرامُه جميعَ تخومِ الجغرافيا، وتعامت عن وحشيته عيون العالم التي لا ترى إلّا بمنظار مصالحها النفعية بعيداً عن أي اعتبار قيمي آخر، كما تشير الوقائع والتجارب المريرة المستقاة من الحقبة الأسدية إلى أن أي مسعى لخلاص السوريين وتحرّرهم إنما سبيله الوحيد هو إزالة الكيان الإبادي الحاكم أو استئصاله. لقد أخفق السوريون في مواجهة هذا الاستحقاق الكبير؟ نعم، ولكنه فشل نخبوي بامتياز، باعتبار أن الشعب السوري أنجز استحقاقاته بكل جدارة وقدّم ثمرة إنجازه للقوى والجماعات السياسية التي ادّعت قيادته وتمثيله، ولكنها فشلت في تجسيد المنجز الشعبي الثوري وتحويله إلى مواقف سياسية رافدة وداعمة لقضيته الوطنية، وفشلُ النخبِ على اختلاف أشكالها ومستوياتها – الثقافية والسياسية والاقتصادية – لا يجيز لها تكريس القبيح لتبرير الفشل، بل ينبغي أن يحفزها ويدفع بها نحو العمل لاستعادة المبادرة وفقاً لما يرقى إلى الحدّ الأدنى من تطلعات السوريين ومستوى تضحياتهم. فهل هذه الدعوة هي ضرب من التشكيك أو المساس بوطنية أصحاب المبادرات أو درجة إخلاصهم الأخلاقي؟ لا أبداً، بل ربما انطوت بعض هذه المبادرات على إحساس بالمسؤولية وغيرة وطنية واضحة لدى أصحابها تجاه معاناة أهلهم السوريين. ولكن هل يتحاشى بعض هذه المبادرات مواجهة الاستحقاقات الجذرية لتبرير منجزها السياسي الصفري من جهة، ولتبرير احتفاظها بامتيازات مصلحية من جهة أخرى؟ نعم أزعم ذلك.
عذراً التعليقات مغلقة