- حمزة مصطفى
هل يمكن مقاربة الجندرة من منظور سياسي؟ سؤال شُغلت به الدراسات النسوية، منذ سبعينيات القرن المنصرم، مع انطلاق ما اصطلح على تسميتها “الموجة الثانية من النسوية” التي ارتبطت، بوجه عامّ، بصدور كتاب كيت ميليت “السياسات الجنسية”، ففي محاولة إجابتها عن السؤال، تنطلق من المفهوم الموسّع لكلمة “سياسة” التي لا يمكن اختصار مجالها في السياسة الرسمية للدولة، أو في البعد المؤسساتي التقليدي.
تعرّف ميليت السياسة بأنها مجموعة التفاعلات والعلاقات المبنية على أساس السلطة في منظومةٍ قائمةٍ على حكم مجموعة لمجموعة أخرى (مسيطر/ تابع). وبناءً على ذلك، تحاول إثبات فرضية مفادها بأنّ النساء، بوصفهنّ مجموعةً، لا يختلفن في تعريفها السوسيولوجي عن الطبقة والعرق، وبالنظر إلى أنّ العلاقة بين الطبقات، أو الأعراق (تستحضر في هذا السياق نموذج الولايات المتحدة الأميركية) هي سياسية تنطوي على شرط قمعي، يحرم جماعةً ما من تمثيل عادل في النظم السياسية، فإنّ العلاقة بين الجنسين أو ما تسميها “هيكلة الدور الجنسي” هي علاقة سيطرة وخضوع بالمعنى السياسي، بحسب توصيف ماكس فيبر.
ولإظهار غبن النساء ومظلوميتهن، تركّز ميليت في عدة مستوياتٍ، تتفاعل في ما بينها بغية ترسيخ الهيمنة الذكورية على السلطة، والمستويات هي:
المستوى السياسي: يتجلى في ما تسميه “منظومة سيطرة الذكر في المجتمع”. وترى أنّ الجيش، والصناعة، والجامعات، والعلوم، ومؤسسات الدولة، بما فيها قوى الشرطة القمعية، هي ممتلكات للذكر احتكرها بحكم علاقات القوة السائدة. وتسخر ميليت من مقولة التفاوت البيولوجي في المقدرات الجسدية الذي يؤهّل الذكر لشغل مثل هذه المهام أكثر من المرأة، وتعدّه عاملاً مضللًا لتبرير احتكاره السلطة. وتجادل في أنّ هذا التفاوت دفع الذكر إلى ارتكاب فظائع لا يمكن للمرأة ارتكابها، ولا ترغب في القيام بها؛ مثل الإخصاء الذي قام به الرجال البيض ضد السود في أميركا، وإحراق القرى والأطفال في فيتنام، والحروب المختلفة.
المستوى الثقافي: تفنّد ميليت مقولات وانطباعات راسخة في المخيال الجمعي، لعل أبرزها الانطباع السلبي تجاه الرجل الذي تسيطر عليه زوجته، وتراه تسليمًا ثقافيًا نمطيًا يحاول إظهار الرجل في صورة “الضحية”، كلّما سعت المرأة لتحصيل حقوق أو مكاسب اجتماعية أو سياسية. ووفقًا لهذا الفهم، تخلص ميليت إلى أنّ تصوير الذكر ضحية يُعدّ “خرافةً ذات نفع سياسي”، جرى اختراعها، وتناقلها، وتعميمها على نحو مقصود وممنهج؛ من أجل خدمة غايات سياسية واحتكار السلطة.
المستوى الديني: ترى ميليت أنّ الديانات التوحيدية ساهمت في إنتاج مجتمعات أبوية، وتعمدت إنزال المرأة منزلةً أقلّ مرتبة من الذكر (الإله، والنبي، ورجل الكنيسة.. إلخ).
تأسيسًا على ما سبق، عدّت ميليت سعي النساء إلى نيل حقوقهن حركةً تحريريةً ذات بعد عالمي، تشبه حركة السود لإنهاء العنصرية، فالنساء، برأيها، يشكّلن كتلةً كبيرةً قادرةً على تغيير مجرى التاريخ البشري، ابتداءً من تغيير القيم الأساسية السائدة، وتغيير الوعي الخاص بالعلاقة بين الجنسين، وانتهاءً بالثورة الاجتماعية والثقافية في أميركا والعالم، للوصول إلى تعريف جديد للإنسانية والشخصية الإنسانية.
بدأت أفكار ميليت التي جاءت تتويجًا لموجة فكرية “نسوية” في نهاية الأربعينيات، مع صدور كتاب سيمون دي بوفوار “الجنس الثاني”، ساهمت في تطوير مقاربة جندرية مختلفة، تركز على البعد السياسي أكثر من الأبعاد الاجتماعية والثقافية. ومن أمثلة ذلك أنّ روبين مورغان، حين كتبت عام 1974 مقالًا بعنوان “النساء كشعب خاضع للاستعمار”، عدّت فيه الهيمنة الذكورية بمنزلة استعمار للجنس الأنثوي، أو ما سمته “شعب النساء”. وعن غرابة هذا التشبيه من جهة أنّ الاستعمار نموذج يفترض وجود أرض لتُستعمر، أجابت مورغان أنّ أجساد النساء هي “أراضيهن النفسية” المستعمرة من الجنس الذكوري. وكما أنّ الشعوب لا تتحرّر إلا باستعادة أراضيها، فإنّ النساء لا بد لهن من تحرير أجسادهن وذواتهن من التسلط الأبوي الذكوري. ليس هذا فحسب، بل طالبت أيضاً دراسات جندرية باجتراح عقد اجتماعي جديد، وفلسفة عالمية مختلفة عن التي رسختها المفاهيم الليبرالية؛ إذ تدّعي كارول باتمان أنّ الليبرالية السياسية، بمفهومها الحالي، ميزت الرجل، وأعطته احتكار النسب، والقوة، وفرضت عملية جندرة لـ “المواطنة” بطريقةٍ رسّخت الأبوية نظامَ حكمٍ اجتماعيٍّ. وفي سياق قريب، تزعم لين هانت أنّ مفاهيم السلطة السياسية التي رسختها الثورة الفرنسية اعتمدت على العائلة، ليس من أنواع تجربة اجتماعية نموذجية، بل بناءً تصورياً للعلاقات السلطوية، وأنّ استثمار الدولة في هيكلية العائلة سياسيًّا أدّى إلى تقنين السلطة الذكورية في الدساتير.
صحيح أنّ الأفكار السابقة أعطت زخمًا معنويًّا، وسياسيًّا لـ “القضية النسوية”، إلا أنّ تغوّل الدراسات الجندرية في ميادين السياسة المختلفة، وفهمها مختلف التفاعلات السياسية أو الاجتماعية من منظور ضيق، وبفهم راديكالي (جسداني)، حادَ بها عن هدفها الأسمى المتمثّل بـ “تحرّر النساء”، وتحوّل مصطلح الجندر تدريجيًا إلى مصطلح تبشيري، يتجاوز مسعى التأثير والتغيير التدريجي التراكمي إلى الفعل الثوري الانقلابي الطامح إلى تغيير العالم في لحظة. فعلى سبيل المثال، برز، في العقود الأخيرة، خطاب “نسوي تبشيري غربي” في شكل حملات للنساء الغربيات من أجل “إنقاذ” النساء في البلدان الإسلامية، ولتحريرهن من سجنهن، والمقصود طبعًا “الحجاب”. إضافةً إلى ذلك، قُدمت مقترحاتٌ لإنقاذ النساء المسلمات من
“دينهن”؛ لأنّ الإسلام، بوصفه دينًا، لا يتماشى مع النسوية. ووفقًا لهذا الفهم، فإنّ الدراسات النسوية الحديثة التي لطالما انتقدت علاقات القوة في المجتمع والدولة التي تمنح الذكر سطوةً وسلطةً على النساء سلكت المسلك مع النساء من ثقافات أخرى، ما أدّى إلى عدم تشكّل نسوية عابرة للثقافات. وبكلمات أخرى، تحوّلت وجوه كثيرة من الحركة النسوية من موجّه لنضال المرأة إلى عناوين تستغل لتجميل قبح ممارسات سياسيّة بذريعة “تحرّر” المرأة.
في إطار هذا الفهم الأداتي للجندر، اخترع مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريّة، سيتفان ديميستورا، ما سماه “المجلس الاستشاري النسائي”، ليساعده في المضي في المفاوضات مع أطراف النزاع. ومع أن كثيراتٍ من أولئك النسوة كن، حتى وقت قريب، واجهاتٍ اجتماعية لوردة الصحراء (أسماء الأسد)، فإنهن لا يتردّدن يوميّا في الفضاء العام في تذكيرنا بذكوريّتنا التي يجب أن نسقطها قبل أن نفكر في إسقاط النظام. وينطبق الأمر كذلك على وجوه نسوية في المعارضة السوريّة اللاتي بتن يفضلن نظام البراميل على أي شيء آخر. فالأخير يجسّد في الواقع رؤيتهن لحرية المرأة، مع أنه يقتل الفلاحات في حقولهن، والأمهات الحوامل مع أجنتهن في المشافي، ويشرّد القاصرات ويدفع بعضهن إلى الانحراف تحت وطأة الحاجة وظروف اللجوء، فحرية المرأة تمثل لهن حرية الملبس فقط، والتي سقطت بعد تضييق جماعات جهادية وإسلامية على النساء في بعض المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وإجبارهن على لبس ملابس محددة.
لا يعني انتقاد مثل هذه السلوكيات وتعريتها والوقوف ضدها بحزم، بأي حال، تجميل صورة النظام، وتبرير جرائمه ضد الشعب بشكل عام، والمرأة بشكل خاص. ويجب ألا ننسى أن هذه السلوكيات المجتمعية لم تكن لتظهر، فيما لو نجح النظام في تحقيق اندماج حقيقي للمرأة في الحياة العامة والشأن السياسي في السابق، ولم يستخدمها صورةً وجسداً لإبراز حداثته الرثة.
- نقلاً عن العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة