رابطة الخوف.. كيف تحول العلويون من التهميش إلى الحكم؟

فريق التحرير3 سبتمبر 2023آخر تحديث :
إبراهيم هلال
ظلت الطائفة العلوية ملتفة -باستثناءات قليلة- حول عائلة الأسد التي تجاوزت كل الخطوط من أجل البقاء في الحكم

عندما قابل العلامة والمؤرخ عبد الرحمن بن خلدون الغازي والقائد المغولي تيمورلنك في العاشر من رمضان من عام 1401م على أبواب دمشق، لم يكن قد تعامل من قبل مع العلويين، وربما لم يكن يعلم بوجودهم من الأصل، غير أن المفارقة كانت أن تلك المدينة، التي قابل ابن خلدون القائد المغولي على أبوابها ليصبح هذا اللقاء هو “اللحظة النماذجية” التي رأى فيها ابن خلدون في ذلك القائد المغولي تجسيدا لنظريته حول صعود الأمم وانهيارها حسب قوة الشعور الجماعي لديها وضعفه أو كما سماها “العصبية”، هي المدينة نفسها التي ستصبح فيما بعد عاصمة حكم عائلة الأسد العلوية.

تلك العائلة التي أتت من “جبال النصيرية” فوق أكتاف طائفتها حتى أوردتها المهالك، رغم ذلك ظلت الطائفة العلوية ملتفة -باستثناءات قليلة- حول عائلة الأسد التي تجاوزت كل الخطوط من أجل البقاء في الحكم رغم كل التحديات والثورات والحروب التي نشبت في جسد سوريا، مجسدةً ما تحدّث عنه ابن خلدون في نظريته عن “العصبية”، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول الدوافع الحقيقية وراء الدعم والتأييد السياسي الذي دفعته الطائفة العلوية لعائلة الأسد من دمائها وقوتها بل ومن وجودها ذاته. فمَن العلويون؟ ومتى ظهروا؟ وكيف تحولوا من طائفة دينية إلى عصبة سياسية تحكم سوريا؟

العلويون.. من هم؟ وكيف ظهروا؟

يعتبر العلويون السوريون جزءا من فئة العلويين العرب التي يبلغ تعدادها حوالي 4 ملايين نسمة، يعيش أغلبهم في منطقة تمتد بشكل هلالي على الساحل الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من شمال لبنان إلى سهول كيليكيا في تركيا، والعلويون السوريون هم أكبر فئة بين العلويين العرب، ويشكلون حوالي 12% إلى 15% من سكان سوريا، أي حوالي 3 ملايين نسمة.

يتركز العلويون في شمال غرب سوريا، خاصة في مدينتَي اللاذقية وطرطوس، وهناك تجمعات علوية في دمشق والريف المحيط بمدينتي حمص وحماة، ولكن أغلب العلويين يعيشون في قرى صغيرة عديدة في منطقة الجبال الساحلية. وتتوزع الطائفة العلوية إلى 4 عشائر رئيسية، هي: الخياطين، والمتاورة، والحدادين، والكلبية التي تنتمي لها عائلة الأسد. تتضمن كل من هذه العشائر عدة فئات صغيرة متحالفة، إذ تسكن عشائر الخياطين المناطق الجنوبية من الجبال الساحلية وحول نهر الكبير الذي يجري على مسار الحدود اللبنانية. ويتركز المتاورة في شمال اللاذقية وشرقها حتى الحدود التركية شمالا ومنطقة مصياف جنوبا. في حين تسكن عشائر الحدادين التي كانت أكبر وأقوى العشائر العلوية قبل صعود عائلة الأسد في المناطق الساحلية حول مدن طرطوس وبانياس وجبلة واللاذقية. وأخيرا تتركز عشائر الكلبية حول قرية القرداحة التي وُلد فيها حافظ الأسد، وفي مناطق جبلة والحفلة واللاذقية(1).

ورغم الغموض الذي يلف عقائد العلوية وشعائرهم لدرجة لا تسمح لأبناء الطائفة أنفسهم بالتعرف إلى العقيدة العلوية وشعائرها إلا بتحقق مجموعة من الشروط(2)، فإن عدة كتب نادرة نشرها علويون قد خرجوا من العلوية أكدت أن المعتقدات الدينية العلوية تتضمن عناصر توفيقية من مذاهب وديانات مختلفة، بالإضافة إلى الاعتقاد بتناسخ الأرواح، بجانب رفع مرتبة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى مرتبة الألوهية(3).

العلوي الأول.. تأسيس الطائفة

يبدأ التاريخ العلوي بمؤسس هذه الطائفة، وهو محمد بن نُصير، الذي وُلد في عام 833م أو 873م بالعراق في منتصف القرن التاسع الميلادي والثالث الهجري(4)، حيث أصبح ابن نصير جزءا من حركة غلاة الشيعة التي نشأت في القرن الثامن الميلادي في مدينة الكوفة بالعراق، والتي انطلقت من تنزيه وتقديس الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذريته.

وقد ظهرت حركة غلاة الشيعة بالعراق في سياق التمزق السياسي للإسلام في القرون الأولى، حيث اشتعل الجدل الذي وصل لحد الاقتتال أحيانا بين الفرق التي اتبعت مذاهب وعقائد مختلفة ببغداد التي كانت وقتها ملتقى لجميع فرق وعقائد الشرق الأدنى والأقصى. وقد اشتد الخلاف بين الفرقتين الرئيسيتين في الإسلام، وهما السنة والشيعة، وكان الخلاف بالأساس خلافا سياسيا يرتكز حول طريقة اختيار الحاكم، إذ رأى الشيعة أن الخليفة يجب أن يكون من (آل البيت) حصراً، قبل أن يقرر غلاة الشيعة أن يرتفعوا بالخلاف إلى المستوى العقدي بوضع الإمام علي بن أبي طالب في منزلة الألوهية، ويذهب عديد من المؤرخين إلى أن أول من بدأ بتأليه “علي” كان عبد الله بن سبأ، وهو يهودي يمني تحول إلى الاسلام في فترة حكم الإمام علي وأعلن تقديسه للإمام على الملأ(5).

كان محمد بن نصير عالم دين ذا شخصية غامضة وشعبية جذابة في أواسط القرن التاسع الميلادي، فقد كان ينتمي إلى قبيلة بني نمير الشيعية التي سكنت قرب نهر الفرات في العراق، وكانت من حلفاء قبيلة بني تغلب التي شكلت نواة الدولة الحمدانية بمدينة حلب في القرن العاشر الميلادي.

بزغ نجم ابن نصير عندما زعم سنة 850م أنه الباب لأئمة الشيعة المعصومين، وقد أكد ذلك الشيخ العلوي نصير إيزكيوكاك في حوار أجراه معه الباحث ليون غولد سميث، حيث قال: “محمد بن نصير في عقيدة العلويين هو الباب والخادم للإمام الحسن العسكري والإمام الحادي عشر من أهل البيت”(6).

فبحكم شخصيته وولاءاته القبلية استطاع محمد بن نصير أن يتقرب من بعض أئمة الشيعة حينذاك، مثل الإمام علي الهادي(أ)، الإمام العاشر، والإمام أبو محمد الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر، لدى الشيعة الإمامية(6). وهناك رواية مشهورة في التراث العلوي تقدم صورة عن تلك العلاقة بين أئمة الشيعة وابن نصير، تقول: “جاءت جماعة من فرسان العجم لزيارة الإمام الحسن العسكري، ووجدوه يرتدي زيا أخضر اللون، وأحاط نفسه بسجاجيد ووسائد خضر، وبجواره جلس ابن نصير باللباس الأخضر أيضا…، طلب منهم الإمام أن يقدموا طلباتهم وما يريدون…، أعطى كلٌّ منهم الإمام دينارا، فتوجه الإمام بالدنانير إلى ابن نصير للتوقيع عليها وإعادتها إلى أصحابها…، وفوجئ الجميع عندما وجدوا عبارة مكتوبة على وجه كل دينار تقول: [لا إله إلا الحسن العسكري، واسمه محمد، وبابه أبو شعيب محمد بن نصير بن بكري النميري، ومن يقول بغير ذلك فهو كاذب]”(6).

تضع هذه القصة بدايات التراث العلوي جنبا إلى جنب مع زعماء وأئمة الشيعة، كما أنها تشير إلى إيمانهم بقدسية وعصمة سلالة علي بن أبي طالب عليه السلام، لكن لا يوجد في التراث العلوي ما يوضح كيف تأسست “الطائفة العلوية” وكيف انتشرت حتى ذلك الوقت، إلا ما سجله التاريخ في ذلك الوقت من التضامن الذي لاقاه ابن نصير من قبيلته “بني نمير”، ويؤيد هذا الاستنتاج استمرار الالتزام الصارم في بني نمير وحلفائهم من بني تغلب (الحمدانيين(ج) فيما بعد) بعقائد الشيعة(6).

ورغم تلك العلاقات والتضامن الذي لاقاه ابن نُصير، سرعان ما اكتسب كثيرا من العداوات في كلتا المؤسستين الدينيتين السنية والشيعية على السواء، بل قام بعض زعماء الشيعة بتكذيبه ولعنه واتهموه بالكذب والفحش والفسوق والسلوك غير الأخلاقي وسرقة أموال الناس بزعم اتصاله الروحي بالأئمة، ما أدى في النهاية إلى إدانته وطرده من الطائفة الشيعية(6). غير أن هذا الطرد هو نفسه ما يشكل بداية سردية المظلومية في التاريخ العلوي، حيث يعتقد العلويون أن طرد ابن نصير حرمه من مكانته الحقيقية في تسلسل أئمة الشيعة.

تُوفي ابن نصير عام 873م أو 883م، وتولى من بعده محمد بن جندب ثم عبد الله بن محمد الجنان الجنبلاني زعامة الطائفة، دون أي تطور ملحوظ في هوية تلك الطائفة الهامشية التي كانت في طريقها إلى الاندثار، إلا أن ظهور أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي من منطقة جنبلا في جنوب العراق حوالي سنة 926م كان بداية تشكل هوية الطائفة العلوية، فقد كان الخصيبي زعيما قبليا بقبيلة بني حمدان، وساعدته روابط القبيلة في نشر الدعوة إلى “الديانة العلوية”(6).

غير أن الظروف السياسية التي بدأ خلالها مواجهة طوائف الغلاة من الشيعة ومعهم العلويون أدت إلى سجن الخصيبي، فإن الروايات التاريخية تقول إنه استطاع الهرب إلى سوريا بعدما رأى رؤيا في منامه حثه فيها المسيح على الهجرة إليها. فيما يعود السبب الحقيقي للجوء الخصيبي إلى وجود أقربائه الذين كانوا قد أسسوا دولة الحمدانيين في حلب وامتد ملكها حتى منطقة اللاذقية على الساحل السوري. وبذلك بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العلويين تحولوا فيه من سكنى المدن إلى سكنى الجبال.

من العمران الحضري إلى العمران البدوي

غادر الخصيبي بغداد إلى سوريا، وكانت هذه هي الخطوة الأولى في تحول الطائفة العلوية من أقلية مدنية منتشرة إلى أقلية ريفية متماسكة ومتراصة، وهي المرحلة الضرورية في نظرية ابن خلدون لتشكيل عصبية قوية. و”العصبية” عند ابن خلدون فكرة ترتبط بتنشيط وتعبئة التضامن القبلي أو رابطة الدم والقربى من أجل تحقيق أهداف سياسية.

لكن العصبية عند ابن خلدون هي حالة أكثر من مجرد الشعور النفسي بالتضامن لدى قبيلة أو فئة أو طائفة دينية، بل هي قوة من الدعم والتأييد الفعلية أو الكامنة التي تحملها جماعة ترى أحقيتها في الحكم. وفي ذلك يقول ابن خلدون: “الغلب للأمم يكون بالإقدام والبسالة، فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشا كان أقرب إلى التغلب على سواه”. وصفة “أكثر توحشا” التي ذكرها ابن خلدون تشير إلى أن بُعد جماعةٍ ما عن المجتمع المتحضر يجعلها أقدر على التطور نحو نشوء عصبية قوية فيها، لذلك فإن المرحلة الأولى في حياة الممالك والدول عند ابن خلدون هو نشوء جماعة قبلية بدوية تتمتع بعصبية قوية.

غير أنه ليس من الضروري أن تكون الجماعة بدوية الأصل، ويدل على ذلك حالة العلويين الذين أصبحوا أكثر بداوة وتوحشا عندما انعزلوا في الجبال وتشكلت لديهم حالة التماسك الجماعي التي يصفها ابن خلدون بالعصبية، فعندما بدأت الدولة الحمدانية التي عاش العلويون في ظلها عصرهم الذهبي بالتراجع والانهيار، ثم تُوفي سيف الدولة الحمداني وبعده زعيم العلويين حينذاك الخصيبي، بدأ موقف الطائفة يضعف تدريجيا، لكنهم استطاعوا التكيف تحت حكم البيزنطيين وكوّنوا معهم علاقات جيدة(6).

لكن عندما وصل الأتراك السلاجقة إلى شرق المتوسط عام 1070م وحققوا انتصارا ساحقا على البيزنطيين في معركة ملاذكرد عام 1071م، اضطر العلويون الذين مارسوا نوعا من “الولاء السياسي” للبيزنطيين وقتها للهروب واللجوء إلى الجبال الساحلية، ولو قرر السلاجقة وقتها مد سلطتهم في شمال سوريا مباشرة بدلا من العودة إلى الأناضول لما كان هروب العلويين إلى الجبال كافيا لإنقاذهم من سيوف السلاجقة.

وقد شكّل هذا الهروب إلى الجبال حدثا فارقا في تاريخ العلويين، جعل عداء العلويين للسُّنة جزءا رسميا في تعاليم طائفتهم، لدرجة أن أبا سعيد ميمون بن القاسم الطبراني، وهو الزعيم الذي وحّد الطقوس في “الديانة العلوية” وقاد العلويين إلى ملجئهم في الجبال، قد كتب واصفا دولة السلاجقة بـ”دولة الشيطان السنية”، وجعل هروب العلويين عنوانا لـ”تحرير العلويين من الاضطهاد السني”!

في الفترة بين أواخر القرن الحادي عشر الميلادي وحتى توطد حكم المماليك في سوريا أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، اقتطع العلويون لأنفسهم وجودا جديدا في ملجئهم الجبلي، فبينما شهدت فترتهم الأولى تشكُّل الهوية الدينية للطائفة، لعبت الفترة الطويلة من العزلة في الجبال الساحلية القاسية دورا مهما في تشكل هويتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقرّبتهم أكثر من الحالة التي عرفها ابن خلدون بوصفهم “جماعة ذات عصبية قوية”.

وإذا كانت فترة الدولة الحمدانية الشيعية هي الفترة الذهبية للعلويين، فإن قدوم الغزو الصليبي الأول 1097م يعتبر الفترة التي تنفس فيها العلويون الصعداء مجددا، إذ اتجه الصليبيون إلى احتلال المناطق المحيطة بجبال العلويين، وعزل ذلك التطويق العلويين عن أعدائهم السنة، وفي داخل تلك الشرنقة الجغرافية طوّر العلويون طائفتهم ومجتمعهم الخاص(6).

وقد سجل المؤرخ السرياني “بار هيبرايوس (Bar Hebraeus)” أن الصليبيين “قتلوا في بداية الأمر بعض العلويين، ولكنهم أصبحوا أكثر تقبلا لهم عندما عرفوا أن العلويين “ليسوا طائفة مسلمة حقيقية”، كما ذهب بعض المؤرخين إلى أن البنية القوية التي يتمتع بها العلويون تعود إلى حدوث تزاوج بين الجنود الصليبيين والنساء العلويات(6). وفي تلك الفترة استطاع العلويون توطيد وجودهم في الجبال الساحلية، وحظوا بحرية الحركة، وقد تراجع خوفهم الطائفي الذي تمكن منهم منذ أن فروا من بطش السلاجقة.

إلا أن هذا الوضع قد انقلب في بداية القرن الثاني عشر الميلادي، بعدما اصطدم في الجبال الساحلية بأقلية دينية أخرى، وهي الطائفة الشيعية الإسماعيلية النزارية المعروفة تاريخيا بـ”الحشاشين”، حيث نجح الإسماعيليون في تأسيس دولة مستقلة حول منطقة القدموس ومصياف في الأجزاء الجنوبية من الجبال الساحلية في بداية القرن الثاني عشر الميلادي/الخامس الهجري، وظل التنافس بين العلويين والإسماعيلية على الجبال ما يقارب قرنا ونصف قرن من الزمان حتى زالت دولة الإسماعيلية على يد المماليك.

فبعد انتصار المماليك على المغول في معركة عين جالوت بشمال فلسطين سنة 1260م، تولى المماليك حكم سوريا، وشنوا حملات عقابية ضد كل من العلويين والدروز والشيعة الاثني عشرية، وبالأخص الإسماعيلية الذين سقطت أقوى قلاعهم في القدموس ومصياف على يد السلطان بيبرس في الفترة بين 1271م و1273م، إذ دفع الإسماعيليون ثمن الدور السياسي الذي لعبوه في المنطقة بتحالفهم مع الصليبيين ومحاولتهم اغتيال صلاح الدين من قبل، مثلما حدث مثلا في معركة عناب حين تحالف الإسماعيليون مع ريموند حاكم أنطاكية الصليبي حينذاك(7).

في أعقاب القضاء على الدولة الإسماعيلية، أصبح العلويون هم القوة المسيطرة على جبال الساحل، لكنهم أصبحوا كذلك أكثر انعزالا وانغلاقا وتخلفا، خاصة بعدما سيطر المماليك على الشريط الساحلي في القرن الثالث عشر، وقد زاد هذا من تماسك وقوى اعتمادهم على أنفسهم واستقلالهم وصلابتهم، خاصة أنه لم تتبقَّ أي قوة سياسية داعمة للعلويين في المنطقة، فكان عليهم أن يعتمدوا فقط على “التقية” والتكاتف أمام صرامة السلطة المملوكية.

الثورة الأولى وصعود العصبية النصيرية

كانت السلطة المملوكية تراقب العلويين بكثير من الريبة بسبب ميولهم الشيعية وعلاقتهم السابقة بالصليبيين، لذلك عمدت السلطة المملوكية إلى حصار الطائفة العلوية ثقافيا ومحاولة إدخالهم في الإسلام، ففي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1317م أصدر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بيانا يتعلق بالعلويين، جاء فيه: “نحن نمنع خطاب النصيريين…، ومن يتجرأ منهم على ذلك سيتم عقابه بشدة”(8)، والخِطاب هو “طقس الدخول في [الديانة العلوية]”، فيبدو أن الديانة العلوية وقتها كانت تسمح بالدعوة إلى اعتناق النصيرية من خارج الطائفة، وكان السلطان المملوكي قد أمر ببناء مسجد في كل قرية علوية، إلا أن العلويين عصوا أمر السلطان، واستخدموا المساجد لإيواء مواشيهم كما ذكر ابن بطوطة، وفي 20 فبراير/شباط من العام التالي، أي 1318م، ثار العلويون في منطقة الجبال لأول مرة في تاريخهم، وتركزت الثورة حول رجل سمى نفسه “محمد بن الحسن المهدي”، حيث ادعى المهدي أنه تلقى تعليمات مقدسة من حمامة بيضاء، فالتف حوله 3 آلاف فلاح علوي، وأعلن موت السلطان المملوكي بالقاهرة، وهاجم مدينة جبلة الساحلية، وأعلن سيطرة العلويين على المنطقة وأحقيتهم بحكم الجبال(8).

حسب نظرية ابن خلدون، تمثل هذه الثورة الشكل الأمثل لصعود عصبية جماعة ما، فحين يستطيع زعيم فرض زعامته وتحريك العصبية الكامنة في قبيلته فإنه بذلك يتحرك نحو تأسيس الملك القائم على العصبية، حيث يقول ابن خلدون: “وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقوة، وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها، فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس، ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعا، فالتغلب الملكي غاية للعصبية”.

غير أن ثورة العلويين سُحقت بسهولة خلال 5 أيام فقط على يد ألف فارس مملوكي أرسلهم والي طرابلس، فقُتل 600 “ثائر علوي” من أصل 3 آلاف، وقُتل المهدي وانتهى التمرد. وبعدما عفا السلطان المملوكي عن العلويين بتوسط والي طرابلس الذي أقنع السلطان بأن في إبادتهم ضعفا للمسلمين لفائدتهم الاقتصادية، طالبت العشائر العلوية من السلطة المملوكية أن تعاملهم معاملة أهل الذمة، وكان في ذلك اعترافا ضمنيا من العلويين بعدم انتمائهم للإسلام(8).

إلا أن حدثا آخر قد وقع في تلك الفترة قد غيّر مجرى تاريخ العلويين وصورتهم في العالم السني إلى الأبد، فلما كانت الحرب المملوكية المغولية ما زالت قائمة أثناء ثورة العلويين، اعتُبرت ثورتهم نوعا من أنواع الخيانة والتآمر التي كان المماليك يتوقعونها من الأقليات التي تحالفت من قبل مع الصليبيين، لذلك عندما سُئل الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية عن قوله في “النصيرية”، فأجاب بفتوى طويلة حكم فيها بعدم انتمائهم إلى الإسلام نهائيا.

وقد جاء في فتوى ابن تيمية الشهيرة قوله: “هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية، هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم. فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة آل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه…، ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة…، وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن يُنكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم…، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين…”.

وبذلك، ومنذ فتوى ابن تيمية وحتى عام 1939م، اعتُبر العلويون طائفة غير مسلمة، وترسخت لدى العلويين وفي خطابهم صورة عدائية للإسلام السني بل للمسلمين بشكل عام، يحيطها الخوف القديم من الإبادة، ما زاد من عزلة العلويين وانكفائهم على أنفسهم، وزاد من تعاضدهم الاجتماعي، وكان لفشل الثورة أثر بالغ، فقد عمّقت هزيمة الثورة هدوء العلويين وانعزالهم حتى تتهيأ الظروف لانطلاق العصبية الكامنة مرة أخرى.

الدولة العلوية الأولى

مع صعود الدولة العثمانية وتمددها أصبح الوضع القانوني للعلويين غامضا في النظام الاجتماعي والاقتصادي العثماني، فقد التزم العلويون بعد سحق ثورتهم بـ”التقية السياسية”، ما زاد في غموضهم في أعين أي سلطة حاكمة، وقد عبّر الرحالة البريطاني “هنري موندريل” عن ذلك الغموض الذي يحيط بالعلويين في ملاحظاته التي دوّنها عام 1697م، كاتبا: “العلويون لهم صفة غريبة منفردة، لأن مبدأهم هو عدم الالتزام بدين معين أيا كان يمكن أن ينعكس عليهم من الشخص الذي يكلمهم. لم يستطع أحد قطّ أن يكتشف ما طبيعة ضمائرهم الحقيقية. وكما هو مؤكد عنهم، فإنهم يصنعون كميات كبيرة من الخمر الجيد ويشربون كثيرا”(8).

وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت أسوأ فترات الاضطهاد التي عاشها العلويون، فقد كانت الدولة العثمانية حينذاك تعاني صعوبة في المحافظة على سيطرتها على المناطق البعيدة والأطراف، لذلك كانت أقل تحملا لأي اضطرابات تحدث في الولايات المركزية، خاصة من قبل العلويين الجبليين، الذين كانت تعتبرهم الدولة العثمانية هراطقة، ولا تُبقي عليهم إلا لمنفعتهم الاقتصادية والضرائب التي يجمعونها(8).

لذلك عندما امتنع الشيخ والزعيم العلوي “صقر محفوظ”، من عشيرة شمسين من تحالف الحدادين قرب صافيتا، عن دفع الضرائب، أُرسل 3 آلاف جندي عثماني لإخضاعه، وذُكر أن الجنود قد أحرقوا المزارع والحصاد وكل شيء واستولوا على كثير من نقود النصيريين(8). وفي عام 1813 ثار العلويون الكلبيون في منطقة القرداحة ضد العثمانيين، فجاء الرد قاسيا من السلطات العثمانية، بحسب ما أورده “غولدسميث” في كتابه(8).

لكن عندما نشبت حرب القرم بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية، أتاح ذلك للعلويين أن يتنفسوا الصعداء، وبزغ نجم الزعيم العلوي إسماعيل بن عثمان بن خير بن إسماعيل بن كنان بن حيدر السنجاري، واستغل ضعف حضور السلطة العثمانية في المشرق بسبب حرب القرم، فبسط سيطرته في منطقة صافيتا على عشائر الحدادين والخياطين، وعندما عجز العثمانيون عن إيقافه، أصدروا قرارا بتعيينه “مشيرا” على كل الجبال الساحلية، فحكم هذا الزعيم العلوي 120 ألف نسمة من سكان الجبال فيما عدا الأجزاء الشمالية منها، بكل مَن فيها من مسيحيين ومسلمين سُنة، وكان هذا الحكم المستقل غير مسبوق في تاريخ العلويين.

قدَّم إسماعيل خير بك النموذج الأولي للحاكم العلوي عندما تولى حكم طائفته، فقد استغل سلطته لزيادة ثروته وثروة أتباعه باقتطاع ضرائب باهظة من سكان مقاطعته، ويذكر بعض المؤرخين أنه في نهاية حكمه عاقب أي معارض لحكمه أو متمرد بحرق عيونهم وقطع آذانهم وسلخهم أحياء(8).

بعد انتهاء حرب القرم قررت السلطة العثمانية التخلص من إسماعيل خير بك، ورغم أن نهاية إسماعيل كانت على يد خاله “علي الشللي” الذي قتله وابنه في قرية عين كروم وسلم رأسه إلى العثمانيين، فإن العلويين قد أضافوا قرار تخلص العثمانيين من زعيمهم إلى سردية مظلوميتهم واضطهادهم الطويلة، وأضافوا إليها زعماء علويين آخرين وصلوا إلى مراكز السلطة ثم تم التخلص منهم وقتلهم، مثل محمد باشا، وهو علوي من اللاذقية انضم إلى الجيش الانكشاري في بداية القرن التاسع عشر، ثم تمت ترقيته إلى رتبة آغا عام 1811، ثم أصبح حاكم طرابلس، فأمعن البطش في أهلها فقتلوه مع بعض أفراد عائلته(8).

بيد أن هذه الأوضاع قد تغيرت جذريا بعد سقوط الدولة العثمانية ووقوع أغلب البلاد الإسلامية تحت سلطة الاحتلال الأوروبي، فبعد سقوط الدولة العثمانية لم يعد للمسلمين السنة أي قوى سياسية ممثلة أو داعمة، وبسبب اعتماد المسلمين السنة على مدار تاريخهم تقريبا على القوى العسكرية “غير العربية”، فقد أصبحوا بعد سقوط الدولة العثمانية في حالة تشرذم ولا يستطيعون التعبير عن مصالحهم، بعكس الطوائف والأقليات التي حظيت بمواقع أقوى على الساحة السياسية منذ مطلع القرن العشرين، وهو السياق الذي جعل العلويين يحصلون لأول مرة في تاريخهم على اعتراف رسمي بحكمهم الذاتي في جبال النصيرية.

اصطناع الدولة العلوية

في عام 1922 حصل الفرنسيون على تفويض رسمي من عصبة الأمم للإشراف على التعليم والتطوير السياسي للولايات العثمانية السابقة في سوريا، وبموجب هذا التفويض أنشأ الفرنسيون للعلويين دولتهم الأولى، والتي كانت صورة مكبرة من الولاية التي حكمها إسماعيل خير باشا، حيث شملت كامل الجبال الساحلية، وامتدت لتضم السهول الساحلية والمدن الرئيسية كاللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة، وبلغت مساحتها 6,500 كيلومتر مربع، وفي نهاية عام 1933 بلغ عدد سكان هذه الدولة 334,173 نسمة، منهم 64% من العلويين، وكانت أكبر فئة تالية لهم هم السنة الذين شكلوا 18%، وتركّز وجودهم في اللاذقية، بجانب المسيحيين والإسماعيليين(8).

إلا أن هذه الدولة الجديدة المصطنعة لم تنجح في تحرير العلويين من “خوفهم الطائفي”، بل زادت عليه نوعا من الشكوك والارتياب والعداء الذي نجح الاحتلال الفرنسي في زرعه بين الطوائف في سوريا، حيث لجأ الفرنسيون إستراتيجيا لتجنيد العلويين والأقليات الأخرى في قوى الأمن ضد القوميين والوطنيين السوريين.

وعندما نالت سوريا استقلالها عن الانتداب الفرنسي، كان زعماء الدولة العلوية قد وافقوا على انضمام الدولة العلوية إلى سوريا الموحدة، كما اتجه الزعماء الدينيون للطائفة العلوية إلى إصدار قرار وقّع عليه 15 شيخا علويا ينص على أن “كل علوي هو مسلم، وكل علوي ينفي كونه مسلما ولا يقر بأن القرآن الكريم هو كتابه المقدس، وأن محمدا هو رسوله، لا يعتبر علويا من وجهة نظر الشريعة”(8)، غير أن العديد من المؤرخين قد ذهبوا إلى أن هذا البيان كان مجرد نوع آخر من ممارسة التقية السياسية التي اعتاد عليها النصيريون. بعدها أصدر المفتي العام للقدس الشيخ أمين الحسيني فتوى تاريخية في يوليو/تموز من عام 1936 يقول فيها إن العلويين طائفة من طوائف الشيعة تدين بالإسلام.

في بداية عهد الدولة السورية الجديدة بعد الاستقلال، بدأ العلويون لأول مرة منذ 10 قرون في النزول من الجبال الساحلية جماعاتٍ للبحث عن فرص جديدة وحياة أفضل، وقد ظهر شخص مهم للعلويين في تلك الفترة، وللمفارقة كان رجلا سنيا من حماة، وهو أكرم الحوراني، إذ لعب الحوراني من خلال حزبه العربي الاشتراكي دورا رئيسيا في تحقيق الأهداف السياسية لطبقة الفلاحين من جميع الطوائف، ما أعطى فرصة الصعود الطبقي لجيل جديد من العلويين دخلوا الجامعات وحصلوا على فرص عمل، وسُمح لهم بتملك الأراضي والبيوت في المدن. وفي تلك الفترة برزت شخصية علوية مهمة، وهي “وهيب الغانم”، الذي كان طبيبا من اللاذقية وعضوا في حزب البعث العربي ورفيقا لزكي الأرسوزي الذي يُقال إنه المؤسس الحقيقي لحزب البعث قبل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، ويعود له الفضل في انضمام كثير من العلويين لحزب البعث.

أكمل الغانم ما بدأه الأرسوزي في ضم كثير من العلويين لحزب البعث خاصة في منطقة اللاذقية، وفي أواخر أربعينيات القرن العشرين كان للغانم تأثير سياسي عميق على طالب شاب علوي من القرداحة من عشيرة الكلبية اسمه حافظ الأسد، والذي سيحقق ما فشلت ثورة العلويين وإسماعيل خير بك والدولة العلوية التي أنشأها الفرنسيون في تحقيقه، حيث سيستولي على الحكم بقوة العصبية النصيرية، بعد أن ينجح في تجييش سكان الجبال من العلويين وكسب ولائهم، مستغلا ذاكرتهم عن الخوف الطائفي، والتي سيجددها في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.

أثبت الخوف الطائفي أنه أقوى وأكثر رسوخا من الدعم والتأييد الذي ينتج عن الرعاية والامتيازات الاجتماعية، لكن هذا الخوف الطائفي لم يتحول إلى عقيدة بهذا الشكل النافذ في نفوس العلويين إلا من خلال سياق اجتماعي وسياسي وتاريخي تحمله ذاكرة جماعية تقوم على طبيعة انعزالية دامت ما يزيد عن 10 قرون تشرّبت خلالها نفوس العلويين معنى الخوف من الإبادة، وانتهت باندماج شكلي مع المجتمع السني الحضري، وتُوّجت بحرب طائفية طاحنة مستمرة لما يزيد عن 10 سنوات ارتكبت خلالها الطائفة بقيادة عائلة الأسد كل أنواع الجرائم بحق السوريين، ولا تزال كذلك إلى اليوم.
————————————————————————

الهوامش:
أ/ الإمام علي الهادي عليه السلام، (212-254هـ)، هو علي بن محمد بن علي بن موسى، عاشرُ أئمة الشيعة الإمامية والمعروف بالنقي والهادي، وقد امتدت إمامته 34 عاما منذ وفاة أبيه الجواد سنة 220 هجرية حتى رحيله سنة 254 هجرية. قضى أكثر سنوات إمامته في مدينة سامراء، وكان ذلك بأمر من المتوكل العباسي.

ب/ الإمام الحسن العسكري عليه السلام (232-260هـ)، هو الحسن بن علي بن محمد، الإمام الحادي عشر من الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية، وقد لقّب بالعسكري لفرض الإقامة الجبرية عليه وعلى أبيه من قبل السلطة العباسية في سامراء التي كانت يومها معسكرا للجند، وكان الهدف من تشديد المراقبة هو عدم السماح له بالاتصال بأتباعه والمقربين منه.

ج/ الحَمْدَانِيُّون، هي إمارة إسلامية شيعية أسسها أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء، الشهير بلقب “ناصر الدولة”، في مدينة الموصل بالجزيرة الفُراتية، وامتدت لاحقا باتجاه حلب وسائر الشام الشمالية وأقسام من جنوب الأناضول.

————————————————————————-

المصادر والمراجع:
1/ الأقليات في السلطة: العلويون السوريون، كتاب: الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط، تأليف بيتر غوبسر.

2/ الأئمة وأمراء الدولة والدين والطوائف في الإسلام ، فؤاد خوري.

3/ الأقليات في الإسلام: الجغرافيا السياسية والاجتماعية، كزافيير دي بلانهول (Xavier de planhol).

4/ دائرة الخوف: العلويون السوريون في الحرب والسلم ، ليون ت.غولدسميث.

5/ نشوء الإسلام، الدين والمجتمع في الشرق الأدنى 600-1800، بركي J.P. BERKEY.

6/ دائرة الخوف: العلويون السوريون في الحرب والسلم ، ليون ت.غولدسميث.

7/ الأقليات في السلطة: العلويون السوريون، كتاب: الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط، تأليف بيتر غوبسر.

8/ دائرة الخوف: العلويون السوريون في الحرب والسلم، ليون ت.غولدسميث.

المصدر ميدان - الجزيرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل