صور من حال عالمنا اليوم

بكر صدقي10 أغسطس 2023آخر تحديث :
بكر صدقي

يبدو عالم اليوم، لجيلنا الذي تشكل وعيه في حقبة الحرب الباردة، غارقاً في اضطرابات نجد صعوبة في فهمها، ناهيكم عن التفكير في مخارج محتملة لها. فلم يعد العالم منقسماً، كما في تلك الحقبة، بين قوتين دوليتين رئيسيتين تخوضان صراعاً على النفوذ بغطاء أيديولوجي يقدم نموذجين يستهوي كل منهما قوى اجتماعية مختلفة، فيتناسل ذلك الصراع إلى صراعات موضعية، أو حروباً وحروباً أهلية بالوكالة عن القوتين المشار إليهما.
ولكن مهلاً.. ألا تبدو الأسطر السابقة وصفاً لحال اليوم بالضبط؟ أليس الانقسام القائم اليوم بين روسيا والولايات المتحدة، ومع كل منهما حلفاؤهما، والصراع الدائر في أوكرانيا ومناطق متفرقة من العالم، كأنه تكرار مطابق للحرب الباردة الموصوفة أعلاه؟ أليس هذا ما دفع كثيراً من المحللين السياسيين للقول بعودة الحرب الباردة؟
نعم، مع فارق ليس بالبسيط، ألا وهو غياب العامل الأيديولوجي، على الأقل بصورته القديمة. المفارقة هي أن الطرف الذي كان يمثل الجبهة المحافظة في الحرب الباردة القديمة، أي الولايات المتحدة وحلفاءها، هي التي تقدم النموذج الأيديولوجي الإيجابي الوحيد في الصراع الراهن، مقابل أيديولوجيات قومية محافظة بلا أفق أممي تقدمها روسيا وحلفاؤها. الفارق الآخر هو أن «النموذج الديمقراطي» الذي يدافع عنه الغرب قد فقد بدوره اندفاعه الهجومي كما في مطلع حقبة ما بعد الحرب الباردة، على ما رأينا في مثال المحافظين الجدد الذين أرادوا تحويل العالم إلى الديمقراطية واقتصاد السوق بالقوة العسكرية (!) لتنكفئ واشنطن على نفسها، بعد فشلها المدوي في العراق وأفغانستان، وتترك الساحة لإمبرياليات طامحة بأحجام مختلفة، كروسيا والصين وإيران وتركيا والهند، تسعى لاكتساب القوة والنفوذ خارج حدودها بطرق مختصرة، أي بالحرب والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، لتلافي الهوة التي تفصلها عن الإمبرياليات الراسخة التي سبق واحتلت المقدمة في النظام الدولي من طريق الثورة الصناعية ثم الاستعمار والسيطرة على طرق الملاحة والتجارة الدولية، وأخيراً الثورة التكنولوجية الواعدة.
وأدى فشل الغرب في «تصدير الديمقراطية» عن طريق الحرب، مترافقاً مع صعود الهويات، وبخاصة الجهادية الإسلامية، وتفاقم أزمة اللجوء والهجرة غير النظامية، إلى انتكاس النموذج الديمقراطي وقيمه وصعود النزعات الشعبوية اليمينية في الولايات المتحدة وأوروبا نفسيهما، الأمر الذي شكّل سنداً غير مباشر لدعاوى الإمبرياليات الطامحة، روسيا بصورة رئيسية، للاندفاع نحو حروب توسعية بدأت إقليمية، في جورجيا وأوكرانيا، ثم انطلقت إلى رحاب أوسع بدءً من سوريا وصولاً إلى إفريقيا.

الدول الأوروبية مرعوبة من الاندفاع الروسي المزود بأسنان نووية، تخلت عن نزعتها المحافظة في جنة الرفاه والتحقت بالقطار الأطلسي من جديد مع ميزانيات دفاعية ضخمة في مواجهة الخطر الروسي الداهم

يبدو التحالف الغربي اليوم مرتبكاً أمام الاندفاعة الروسية، وإن أظهر تماسكاً وإرادة قويين في الحرب الأوكرانية. المثال النموذجي لهذا الارتباك هو الانقلاب العسكري في النيجر الذي سرعان ما أظهرت روسيا دعمها له، مقابل عجز باريس وواشنطن. في حين بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة الروسية الإفريقية وكأنه يمثل الإمبراطورية السوفييتية البائدة، يوزع القمح المجاني بسخاء في الوقت الذي يحجزه عن العالم، مترافقاً مع جيش المرتزقة فاغنر المستعد للدفاع عن الطغمة الانقلابية في النيجر في وجه أي تدخل عسكري محتمل من دول «إيكواس»!
تبدو إدارة الرئيس الأمريكي بايدن وكأنها تحاول لملمة خسائر المرحلة السابقة من خلال الاستماتة في دعم أوكرانيا بوصفها حائط السد الأخير في وجه الطموحات الروسية، في وقت خسرت فيه، بدرجات مختلفة، الولاء الراسخ لحلفاء تقليديين كالسعودية والإمارات وتركيا ودول في أمريكا الجنوبية أخذت تنوع علاقاتها الدولية في حقبة ما بعد القطب الواحد. في حين أن الدول الأوروبية مرعوبة من الاندفاع الروسي المزود بأسنان نووية، تخلت عن نزعتها المحافظة في جنة الرفاه والتحقت بالقطار الأطلسي من جديد مع ميزانيات دفاعية ضخمة في مواجهة الخطر الروسي الداهم، في وقت تعاني فيه من مشكلة اللجوء والهجرة مع انعكاساتها الداخلية المتمثلة في صعود اليمين الشعبوي.
الواقع أن حال الإمبرياليات الطامحة أسوأ من حال المعسكر الغربي من حيث الديناميات الداخلية والفشل في حملات التوسع على حد سواء، بخلاف الصورة الظاهرة. روسيا بوتين التي كانت حرب أوكرانيا وبالاً عليها ـ وعلى أوكرانيا طبعاً ـ لم تعد قادرة على الخروج من هذه الحرب لا بانتصار صريح ولا بتسوية مقبولة، وفي الأزمة السورية التي فرضت نفسها عليها كاللاعب رقم واحد فشلت فشلاً ذريعاً إذا نظرنا إلى حال حليفها المحلي اليوم، نظام بشار، العاجز عن إدارة مناطق سيطرته ناهيكم عن التمدد نحو المناطق الخارجة عن سيطرته. بل إن آثار هذا الفشل المتكرر قد بلغت الداخل الروسي حين تمرد عليه قائد مجموعة المرتزقة المعروفة باسم فاغنر، فأرغم بوتين على تسوية معه مذلة لدولة «عظمى» كما يتخيلها بوتين، ولصورته كديكتاتور كلي القدرة والسيطرة.
إيران التي تمكنت من مد نفوذها إلى جوارها العربي لم تفعل غير إهدار مواردها في صراعات داخلية مذهبية خلفت الخراب في كل مكان، ويثور شعبها على قيادتها الدينية كل بضع سنوات، في الوقت الذي تختنق فيه بسبب الحصار الاقتصادي المفروض عليها.
لقد أدى غياب نموذج أيديولوجي كوني كالاشتراكية والديمقراطية، وانحسار الهيمنة الأمريكية الأحادية معاً، إلى فوضى عارمة في مناطق مختلفة من العالم. وبعد إضاعة المنطقة العربية للفرصة التي قدمتها ثورات العشرية الثانية من القرن، جاء الدور في الاضطرابات إلى القارة الإفريقية، ليس من بوابة ثورات شعبية، بل باستعادة تقليد الانقلابات العسكرية المميز لحقبة الحرب الباردة.

المصدر القدس العربي
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل