* صبحي حديدي
ودّع الرئيس الأمريكي باراك أوباما منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، فألقى خطبة عصماء (لأنها امتدت على أكثر من 5600 كلمة، واستغرقت قرابة 47 دقيقة)؛ كانت، على نحو ما، أيضاً، خطبة وداع العالم ما وراء المحيط، خارج أمريكا. ولقد ابتدأ بتعداد منجزات بلاده، أي «مآثر» ثماني سنوات من رئاستَيه، في عبارة أخرى؛ وانتهى إلى التشديد بأنّ أفضل سُبُل خدمته لبلاده، وحسن تربيته لطفلتيه، إنما يتمثل في التأكد من أنّ أفعاله تسعى إلى صالح كلّ الشعوب، وكلّ بنات العالم وأبنائه. وكذلك، خير الختام: «هذا ما أؤمن به: أننا، كلّنا، يمكن أن نكون شركاء في العمل مع الله. وأنّ قيادتنا، وحكوماتنا، وهذه الأمم المتحدة، يتوجب أن تعكس هذه الحقيقة التي لا تُختزل».
«تكبير!!!»، كما في وسع السوريين أن يهتفوا، جرياً على هتاف إزاء العجيب والخارق، تأصّل خلال سنوات الانتفاضة الخمس؛ مع فارق أنّ التكبير هنا يتوخى السخرية من بلاغة أقرب إلى طبلة صفيح، لا تقود مدلولاتها إلا إلى التشدّق الأجوف بالألفاظ الجوفاء. ورغم أنّ هذه الخلاصة ليست جديدة، البتة، في خُطب أوباما المختلفة، من هذا المنبر أو سواه، وبصدد قضايا العالم خارج أمريكا تحديداً؛ فإنّ من الطريف مقاربة «ذهنية» هذا الرئيس الأمريكي بالذات ـ أوّل أفرو ـ أمريكي يبلغ البيت الأبيض، للتذكير ـ على نحو مقارن، يعتمد بعض المنهج: كأنْ يعود المرء إلى خطبته الأولى أمام الجمعية ذاتها، سنة 2009، وكان قد قضى في السلطة تسعة أشهر فقط.
«لقد عدنا إلى الانخراط مع الأمم المتحدة، وسدّدنا فواتيرنا»، هكذا أعلن أوباما يومذاك، في خطبة استغرقت41 دقيقة، أي أطول من آخر خطب سلفه جورج بوش الابن بـ20 دقيقة. فأل حسن، كما ساجل البعض حينئذ، جادّاً؛ وصحيفة «نيويورك تايمز» ساقت عبارة الفواتير إياها، من فرط الإعجاب بها، فاختارتها في ركن «اقتباس اليوم»؛ وأمّا الموقع الرسمي للأمم المتحدة، فقد احتفى بالعبارة إلى درجة التزيّد، وأضاف ما لم يقله أوباما بالحرف: أمريكا سدّدت الفواتير المتأخرة عليها!
في الآن ذاته كان الكثير من المعلّقين قد افتُتنوا بواقعة التصفيق الشديد الذي لقيه أوباما (وبلغ دقيقتين متواصلتين في ختام الكلمة، عدا التصفيق المتقطع لهذه الفقرة أو تلك)؛ مقارنة بنوبات الصمت التامّ، أو التصفيق البارد العابر، حين كان سلفه يعتلي المنبر إياه، في اجتماعات سابقة. وبذلك لاح أنّ الرئيس الأمريكي اكتسب مزيداً من الشعبية هنا، في المحفل الدولي؛ هو الذي أخذت شعبيته تتآكل تدريجياً هناك، في بلده، وخاصة في تلك الأوساط الشعبية المهمشة التي صنعت الكثير من أسباب صعوده وفوزه.
ولاح، أيضاً، وكأنّ الأولويات الأربع التي حدّدها (الحدّ من التسلّح النووي، سلام الشرق الأوسط، التغيّر المناخي، ومعالجة الفقر في البلدان النامية)، ليست قديمة العهد؛ بل هي معادة، مكرورة، شهد هذا المنبر النطق بها على لسان رئيس أمريكي تلو آخر، مع تنويعات في الصياغة الخطابية وحدها، وبراعة أو رداءة الأداء الخطابي عند رونالد ريغان، جورج بوش الأب، بيل كلنتون، جورج بوش الابن، باراك أوباما… هذا إذا لم يعد المرء بالذاكرة إلى أحقاب أخرى أبعد زمناً في تاريخ منظمة الأمم المتحدة، والعلاقات الدولية عموماً، سواء في ما يتصل باتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية (1968)، أو التغيّر المناخي (بروتوكول كيوتو، 1992)؛ وللمرء أن يدع جانباً سلام الشرق الأوسط وفقر البلدان النامية و»الحملة على الإرهاب»، فهذه أشبه بقضايا عالقة في المطلق الأبدي!
بدا من المشروع، مع ذلك، أن يُقرأ خطاب أوباما على نقيض الرسالة المركزية التي أراد سيّد البيت الأبيض إيصالها؛ ومفادها أنه رجل التغيير هنا أيضاً، وسياسة الولايات المتحدة تجاه المنظمة الدولية قد تبدّلت، وصارت إيجابية ومنخرطة وفاعلة، بعد أن كانت سلبية عازفة جامدة. فهو، بادىء ذي بدء، أعاد إنتاج مفردات الإدارة السابقة حول السلام في الشرق الأوسط، وخاصة التشديد على يهودية دولة إسرائيل، واستخدم صياغة عالية التهذيب في الإشارة إلى عدم شرعية المستوطنات (دون أن يمنعه هذا من إعطاء الضوء الأخضر لاستئناف البناء في ما أسماه ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «مخادع النوم في ضواحي القدس»). قبل هذا كان أوباما، خلال القمة الثلاثية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونتنياهو، قد أكّد التزام الولايات المتحدة بأمن الدولة العبرية، على نحو قاطع وصريح وبليغ؛ أطرب الأخير فضحك ملء شدقيه أمام الصحافة، وأتعس الأوّل فاكفهرّ وعبس!
في القضايا الأخرى التي تضمنها خطابه، وكانت إعادة إنتاج لسياسات الإدارة السابقة، أو إعادة صياغة لها، ولكن تجميلية منافقة ودبلوماسية؛ كان طريفاً أن يدعو أوباما المجتمع الدولي إلى استشراف القرن الجديد تحت خيمة الأمم المتحدة، من جهة؛ وأن يقرّع العالم لأنه يعادي سياسات أمريكا، ولا يساندها في حروبها، ولا يمنحها ترخيصاً خالصاً بالعمل الأحادي، أنى ومتى ارتأت أمريكا استخدام أيّ من خياراتها في التدخل الخارجي، من جهة ثانية. ولقد فسّر حكاية العداء تلك كما يلي: «بعض السبب فيها يعود إلى سوء الإدراك أو سوء المعلومات حول بلدي. بعضها الآخر يعود إلى معارضة سياسات محددة، واليقين بأنّ أمريكا تصرّفت لوحدها في بعض القضايا، دون الاكتراث بمصالح الآخرين. وهذا ما أدّى إلى نزعة عداء شبه انعكاسية، كانت غالباً تُستخدم كذريعة لامتناعنا عن المشاركة في العمل الجماعي».
وفي ما يخصّ مواقف الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، لم ننتظر طويلاً حتى نرى المندوبة الدائمة، سوزان رايس في حينه، ترفع بطاقة الـ»فيتو» في وجه أيّ إجماع دولي ضدّ أي من جرائم إسرائيل. قبلها شهد العالم إصرار الإدارة السابقة، بضغط من فريق المحافظين الجدد ونائب الرئيس ديك شيني، على تعيين جون ر. بولتون في منصب مندوب أمريكا الدائم، رغم أنّ جوهر موقف الرجل من المنظمة التي سيعمل فيها كان، ببساطة: الاحتقار التامّ! كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية آنذاك، دافعت عن بولتون بطريقة مبتكرة حقاً: إنه ليس أوّل كارهي هيئة الأمم في لائحة مندوبي أمريكا الدائمين. قبله كان هناك باتريك موينيهان، وجين كيركباتريك، و… كانت مادلين ألبرايت، الديمقراطية الكلنتونية حتى النخاع، كما تحاشت رايس أن تضيف!
وفي سنة 2009 تعالى التصفيق حين أعلن أوباما: «في أول يوم من حكمي منعت، دون استثناء أو التباس أو مماحكة، استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للتعذيب»؛ ثمّ تعالى تصفيق أشدّ حين قال: «أمرتُ بإغلاق معتقل خليج غوانتنامو». لا التعذيب توقف، بالطبع، ولا معتقل غوانتنامو أُغلق؛ وكلا الكذبتين ليس مفاجأة، غنيّ عن القول، لولا أنّ القائل يعاود تكاذبه، قارعاً طبول الصفيح ذاتها؛ وكأنّ ذاكرة البشر خُتمت بصلصال. تصفيق آخر، متكرر، لقيته فقرات أوباما المخصصة لـ»سلام عادل ودائم بين إسرائيل والفلسطينيين»؛ وليس أدلّ على مآلات هذا الملفّ من مقارنة إحصائية بسيطة: سنة 2009 تناوله أوباما في 400 كلمة، وهذه السنة… 31 كلمة!
ويبقى، بالطبع، أنّ 2009 لا تشبه 2016 في تفاصيل كثيرة، لعلّ أبرزها مواقف الإدارة المتقلبة من انتفاضات العرب والأنظمة البائدة؛ وصعود «داعش» والخليفة البغدادي، بعد «القاعدة» وأسامة بن لادن؛ وافتضاح «الخطوط الحمر»، في التعاطي مع النظام السوري؛ والتطنيش على جرائم الحرب الأخرى، التي ارتكبها ويرتكبها حلفاء بشار الأسد… الثابت، في مقابل المتحوّل، ظلّ طبلة الصفيح الجوفاء، تواصل القرع والجلجلة والجلبة!
* نقلاً عن: “القدس العربي”
عذراً التعليقات مغلقة