بعد غرق مركب بمئات المهاجرين على متنه قبالة اليونان الأسبوع الماضي زاد الجدل حدة بين دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط حول قضية الهجرة واللجوء بعد أن كشفت التحقيقات أن قارب الصيد المنكوب بدأ رحلته من مصر، ثم طبرق الليبية حيث انضم إليه آخرون كثر، في طريقه إلى إيطاليا.
الجدل، الذي سكبت فاجعة هذا المركب المزيد من الزيت على ناره التي لم تخمد أبدا، بدأ يتحوّل تدريجيا إلى نوع من حوار الطرشان بين أوروبا، وخاصة إيطاليا، التي ضاقت ذرعا بالآلاف الذين يتوافدون إلى شواطئها، ودول الضفة الجنوبية، وخاصة تونس وليبيا، التي ترى أنه لا بد من مقاربة أكثر شمولية وإنسانية لهذه الظاهرة.
عند مثل هذه المآسي، لا تطفو على السطح غالبا سوى تلك التقارير الإخبارية التي تركّز بالخصوص عن أعداد الناجين والمفقودين، أما التغطيات التلفزيونية فتكتفي عادة بشهادات سريعة لبعض الناجين أو بعض من حضروا ملهوفين لمعرفة مصير أهاليهم إلى درجة أن بعضهم لا يطمع في أكثر من استرداد جثثهم للدفن.
قلة هي تلك التي تريد التوقف قليلا لمتابعة حالات هؤلاء المهاجرين وكيف دفعت بهم قسوة الحياة وانسداد الآفاق إلى مثل هذه المغامرات مع علمهم أن الموت يتربّص بمعظمها. وإذا ما استثنينا ما تعرفه جيدا مثلا المنظمة الدولية للهجرة والصليب الأحمر والكثير من منظمات المجتمع المدني الأوروبية المعنية برعاية هؤلاء عند وصولهم إلى الشواطئ الأوروبية من قصص مؤلمة لكل واحد من هؤلاء، فإن القليل من الأضواء قد تكون سلّطت على هذه الحالات الإنسانية الجديرة بالرصد، منذ انقطاع كل واحد من هؤلاء عن الدراسة ومعاناته الحرمان والبطالة وصولا إلى اتخاذ قرار ركوب قارب متهالك لا يدري إن كان سيوصله إلى بر الأمان أم لا، بعد أن يكون دفع إلى عصابات تهريب البشر كل ما استطاع جمعه من مال من هنا وهناك بصعوبة كبيرة، دون أن نغفل ظاهرة جديدة غريبة وهي أنه بات بين هؤلاء خريجو جامعات بل وموظفون كذلك مما يدل عن حالة الإحباط والدمار التي تمكنت من الكثيرين.
بعد غرق مركب بمئات المهاجرين على متنه قبالة اليونان الأسبوع الماضي زاد الجدل حدة بين دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط حول قضية الهجرة واللجوء
«لامبيدوزا» تلك الجزيرة الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا، بين مالطة وتونس والتي لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف وكانت في الماضي مجرد سجن أو منفى، كثيرا ما يتردد اسمها عند الحديث عن موجات الهجرة غير النظامية من تونس وليبيا فهي الأقرب إلى شواطئها، وإليها ينشد الوصول مئات القوارب خاصة مع تحسن أحوال الطقس خلال الصيف. لامبيدوزا هذه كان توجه إليها بطريقة غير نظامية آلاف التونسيين بعد ثورتهم عام 2011 وصاروا يهتفون عند الوصول إليها «لامبيدوزا حرة حرة والطليان على برّه» هي من اختارها الطبيب والروائي التونسي علي المرداسي عنوانا لروايته الجديدة الصادرة مؤخرا والتي صادفتها وصاحبها في معرض الدوحة للكتاب هذه الأيام.
الرواية المستوحاة من أحداث واقعية، أهداها صاحبها إلى «كل الثكالى الذين فقدوا فلذات أكبادهم في الطريق إلى الجنة الموعودة (…) اللواتي لم يمنعهن ألم الفقدان وحسرة الفراق من إحياء ذكرى أبنائهن والمطالبة الدائمة بالكشف عن المتسبب في فواجعهن ومحاسبته، حتى وإن لاح ذلك ضربا من ضروب المستحيل». ومن خلال بطل الرواية «سمير» يبحر القارئ في شخصية أحد المهاجرين الذي انطلق من تونس إلى لامبيدوزا، علّنا نقف على مجرد نموذج يقودنا إلى أنسنة هؤلاء المهاجرين الضحايا من أمثاله فنكفَّ، ولو قليلا، عن التعاطي معهم على أنهم مجرد أرقام، أو حتى عن تقريعهم أحيانا لأنهم اختاروا طريق الآلام مع أنه لم يدفعهم إليه إلا ما هو أمرٌّ وأقسى.
الكتاب الصادر عن دار «نحن» للإبداع والنشر والتوزيع التونسية في 144 صفحة من الحجم المتوسط يجعل من «سمير» صديقا لنا، نتّبع بتعاطف وشفقة كل خطواته منذ أن وضع نصب عينيه فكرة الهجرة، بعد أن «صار يعتبر حياته الحالية بائسة، رتيبة، هدّامة ودون قيمة تذكر، كما أنه لا يرى أفقا أرحب، ولا يستشعر بصيصا لانفراج ضيق صدره، وحلّ مشاكله المادية التي استفحلت شيئا فشيئا، ولذلك فخوضُ غمار تجربة الهجرة تلوح بالنسبة إليه الحل الأفضل والأسرع لانفراج أزمته، وأما عن المجازفة التي تقترن بها، فهي طبيعية، ولا بد من تقبّلها والتعامل معها»…
يجعلنا الكاتب نبحر مع سمير في رحلته مع عشرات «المهاجرين من كل الجنسيات والأصول والأعمار، عشرات من الشباب والكهول والنساء والأطفال جلسوا القرفصاء يتطلع بعضهم إلى بعض» ومن بينهم «امرأة سمراء حامل، يبدو عليها الإجهاد والتعب، لا تكف عن التأوّه والأنين وكأنها ستلد بعض لحظات» إلى أن تنقلب الرحلة إلى مأساة ويغرق المركب حيث «شاهد سمير بأم عينيه كهولا وأطفالا ونساء يطلقون صرخات أخيرة تفطر القلوب، قبل أن ينهكهم الإجهاد، فيغوصون داخل المياه دون عودة، وتخمد صيحاتهم وتوسلاتهم للأبد.. صارت تلك الرقعة من البحر مقبرة مائية دفن فيها الكثيرون أحياء على مرأى ومسمع من البقية».
كم هي قاسية قلوبنا.. على ضفتي المتوسط على حد سواء.
عذراً التعليقات مغلقة