عِبارة تَترددُ على مَسامعنا بين الحين والآخر، تقفزُ من أشداق بعض السوريين المُتشائمين الذين يَعيشون مُغتربين قد ابتعدوا عن واقع أهلنا في الداخل السوري وعن أوضاعهم ومأساتهم ومُعاناتهم، فإذا اجتمعَ ذلك المُغترِبُ السوداوي بأحد أبناء تلكَ المِلّة التي هو ضيف لديها تسارعتْ في نفسهِ بواعثُ التملّق ليكون سيّد مَجلسه، وليلفتَ انتباه الحاضرين، فيعزف على وتر من يُحبّون هذه اللهجة وذلك الفكر، الذي يجعل من أعظمِ ثورةٍ أتى بها التاريخ – حسب ما سمعتُ وقرأتُ وعرفتُ – ثورةَ نادمين ومُفلسين ولصوص.
هذا ما تأتي به بعضُ الأروقة والمجالس في المُغترب حيث بعض أبناء جلدتنا الذين “تركوا الشَقى على من بَقى” فحملوا أموالهم فارّين من جَورِ مُجرم مُتمرّس، وفَسادِ نظامٍ ربيبِ جميعِ أنظمةِ الفسادِ في العالم، وبعدما حَلا لهم المقام وطابَ المُستقر في مَهجرهم لعنوا مَن قَدّموا مليونَ شهيد ومثلهم من المُغيَّبين والمُعتقلين بأن قاموا بهذه الثورة التي لم تحمل لأبنائها – حسب كلامهم – إلّا القتل والدمار والتشرّد واللجوء والهموم والمآسي، ثمّ يَلوكون كلمة يَجترّونها كُلما ذُكرتِ الثورة قائلين:
وما الذي جاءتْ به هذه الثورة؟ ألا يكفي ما جرى لأبنائنا؟ وهل سنبقى مُشرّدين هنا وهناك؟ ثمّ يُطلقُ تلك الكلمة الآثمة بِملءِ فِيهِ مُقسِماً: والله لو عاد بنا الزمان إلى الوراء لن تجدَ رجلاً سُوريّاً يخرج بمثل هذه الثورة، والله إنّ كلّ الذين يُسمَون بالثوّار هم لصوص.
مع الأسف.. هذا ما تحمله بعض تلك المجالس التي يكون فيها سوري جاهل لا يعرف ما يجري لأهله ووطنه، أو أنّه لم يجرب معنى الفقد والتغييب والقهر، أو أنّه يَعلم ولكنه يَتناسى، أو أنّه مَلّ هذا الحال واستبطأ النصر والفرج، أو أنّه يَتملقُ لمن يُجالسهم، ومهما يكن.. فإنّ النتيجةَ بكلامهِ المسموم مُرّةٌ وظالمة وافتراء واضح لا يُقبل أبداً.
من هو النادم؟
فهل النادم على خروجه في هذه الثورة هو الذي فَقدَ كلّ عائلته جرّاء قصف النظام الوحشي للأحياء المدنيّة والأسواق؟
أم تلك المرأة التي خَسرت عشرة من عائلتها (زوجها وأولادها وإخوتها) بعد اعتقالهم من قِبل أجهزة المُجرم الأمنيّة، وبعد مُدّة أعاد بعضَهم جثّة هَامِدة مُشوّهة، والباقي مَجهول الحال؟
أم الرجل الذي اغتصبَ شبّيحةُ بشار ابنتهُ أمام عينه في المُعتقل حتى مات كمداً وحسرة؟
أم الرجل الذي قتلَ المجرمُ الكيماوي بضع عشرة شخصاً من عائلته واعتقل مثلهم ولا يُعرف عنهم شيء منذ عشر سنوات؟
أم الذي هَرَّبَ أولادَه خَوفاً من أن يسحبهم النظام إلى هاوية الجُنديّة حتى غَدوا مُشتتين كلّ ولد في بلد، لا تجمعهم إلا شاشة الفيديو إن وُجد الإنترنت والكهرباء؟
أم التي ذهب عقلها على ولدها ومات زوجها تحسّراً على اعتقال ابنه حتى صارت حالها بالويل؟
أم الذي باع بيته وبُستانه ليدفع الرشوة لفروع المخابرات ليُخرجوا ابنه الوحيد من المُعتقل وبعد سنوات تَبيّنَ أنّه قد قُتلَ في مَحبسهِ؟
أم الذين يَعيشون في الخيام شمالاً وجنوباً يقتلهم البرد شتاء ويحرقهم الصيف، ويموتون جوعاً بلا أيّ عون إلّا من رحم الله؟
أم الشاب الذي فَضّلَ الهروب إلى تركيا من أن يَخدم في جيش العصابة الأسديّة ثمّ هَربَ مَرّة أخرى خوفاً من الترحيل، واختار البحر فألقاه قَدرُهُ عند الحدود اليونانية ليتيه في غابات تلك المنطقة المخيفة؟
أم الذي بات يَعيش غريباً في أهله ووطنه من طابور إلى طابور، ومن ذلّ إلى آخر، لا يستطيع العَيش بكرامة داخل بلده بل يتمنّى الموت مع كلّ مطلع شمس؟
أم الذي خدم عسكريته الإجبارية في صحراء تدمر وبقي فيها سبع سنوات ثمّ تسرّح بعد تلك المدّة ليعتقله نظامه بتهمة النيل من هيبة الدولة؟
هذه الصور والحالات واقعية لا خيال فيها ومثلها آلاف الحكايات من سِيَرِ أبنائنا في سورية، فهل كلّ هؤلاء نَدِم أو سيندم على خروجه على نظام دموي طائفيّ حاقد؟!
النادم الحقيقي..
أظنّ أنّ هناك الكثير قال: نعم أنا نادم، لأنني خرجت في الثورة 2011 ولم أخرج قبل هذا الوقت فقد تأخرت كثيراً. وهناك من سيقول: أنا نادم لأنني لم أحمل السلاح في وجه هذا الظالم واكتفيتُ بالمعارضة السلميّة.
وهناك من سيقول: أنا نادم لأننّي صبرتُ كلّ هذه السنوات قبل الثورة وأنا أُصدّقُ تلك القنوات الإخبارية الأمنية الكاذبة وشيوخ المجرم المنافقين.
وهناك من سيقول: أنا نادم لأنني ترددتُ في بداية الثورة فكنت أدافع عن نظام خبيث ظالم ثم خرجت في منتصفها فليتني كنت الثائر الأول.
وهناك من يقول: أنا نادم لأنني غادرت سورية ولم أكمل طريقي مع إخوتي في السلاح.
وهناك من سيقول: أنا نادم لأنني هاجرت ولم أُقدّم عَوناً للمجاهدين الذين يُدافعون عن كرامتنا إلى الآن.
والنادمون الآن كثيرون أمثال أولئك بعشرات الأسباب المُشرّفة على ندمهم، ولكن من عنده عَمى أو قلّة بصيرة أو ابتلي بشيء من نكران الجميل حتى تيبّس ضميره يقول: إنّ كلّ الشعب السوري نادم على خروجه في هذه الثورة. ويقول: ومَن لم يندم هو لِصّ من اللصوص.
أيها الأخ التائه.. يا مَن أضعتَ هويتكَ وفقدتَ طريقكَ، اتقِ الله ولا تَفترِ على الملايين من أهلك، ولا تُنسِكَ غُربتكَ قضيةَ ثورتنا العادلة، فإن لمحتَ خطأ من أهلك فلا تُعمم خَطأه على جميع أبناء شعبك المكلوم. أمّا الذين تُحابيهم وتُجاملهم بكلماتك التي تَنالُ فيها من إخواننا الثوّار فاعلم أنّك ستسقط لديهم أولاً بتملقك المكشوف قبل أن تسقطَ من عيونِ ثُوّار سورية.
فكن أنت النادم الآن على كلماتكَ الجارحة بل القاتلة، واعتذرْ وعُدْ لرشدكَ ولا تُكابر وتُبرر، ولا تترك سَبيلَ هؤلاء الذين فَتحوا لنا الطريق الصحيح وعبّدوه قبل فَقدهم تَقبّلهم الله، وألحقنا بركبهم، وأكرمنا بما أكرمهم، وعافانا ممن أخطأوا في حقهم.
عذراً التعليقات مغلقة