ربما يظن ظانٌ أنَّ أعداء المكتبات هم السلطات الدكتاتورية والجهلة وأنصار الخرافة، وحسب، إلا أن الأمر يتجاوز هؤلاء إلى أصحاب “الكار” أنفسهم، وهذا يحصل عندما يفشل شخص في أن يكون خصماً شريفاً!..
مكتبة “كردية” أحد أقدم المكتبات في مدينة اللاذقية السورية، أعلنت أنها ستغلق أبوابها مع نزيف آخر أيام هذا العام، بعد 80 عاماً قضتها في خدمة الثقافة وصناعة وتسويق الكتاب، وذلك بسبب “مضايقات أمنية” على ما يبدو، وليس لأسباب اقتصادية كما يُروج..
وقبلها بأيام، أعلنت “دار الساقي” أنها ستغلق مع نهاية العام الجاري مكتبتها في لندن، والتي تعد من أقدم وأهم المكتبات العربية في العاصمة البريطانية، وذلك بعد 44 عاماً من خدمة المثقفين العرب هناك، إلا أن الإغلاق يتعلق بقضايا اقتصادية خالصة، ولا علاقة للحريات فيه.
أما موضوع مكتبة “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” في إسطنبول، فمختلف وغريب، فلا أسباب سياسية ولا اقتصادية وراء إإلاقها منذ 10 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولمدة شهر ونصف، قبل أن تعود إلى أصدقائها منذ أيام.
مدير المكتبة ومؤسسها الصحفي والناشر السعودي نواف القديمي، حكى لنا القصة كاملة، ونشرها على صفحاته الشخصية في فيسبوك وتويتر، ونقلتها عنه عديد الصحف والمواقع الإخبارية، وتفاعل معها مثقفون وإعلاميون في برامج ومقالات.. وملخصها أن شخصاً يملك مؤسسة للنشر والتوزيع، احتكر سوق الكتاب العربي في إسطنبول، ولم يعد يسمح أو يتخيل حتى أن يخرج أحد عن سطوته أو يتصرف بحرية ومهنية في القطاع الذي بات يتحكم بكل مفاصله في تركيا كلها وليس في إسطنبول وحسب!.
وقال القديمي إن الجهة تلك، والتي تنظم معرض إسطنبول للكتاب العربي، ومعرض غازي عنتاب كذلك، تحاول فرض سيطرتها على كل المشتغلين في صناعة وتسويق الكتاب العربي في تركيا، وأنهم يكيدون له لأنه بقي مستقلاً بإدارة عمله، ولم يشارك في معارضهم أو نشاطاتهم، لأسباب تتعلق بالجدوى، وليس لاعتراضه على العمل بذاته.
ومكتبة الشبكة العربية في إسطنبول، تعد الأكبر والأغنى بين المكتبات العربية التي تكاثرت في المدينة، وتوفر -وفق القديمي- منشوراتها الخاصة، إضافة إلى نحو 27 ألف عنوان تعود لـ350 دار نشر عربية.. كما أن المكتبة تعد نادياً ثقافياً مفتوحاً يلتئم فيه شمل المثقفين العرب وضيوفهم من كل الأطياف والتوجهات.
والصادم -حدَّ الدهشة- أن الشبكة العربية تعرضت لمضايقات ومنع في معارض كتب عربية، إلا أنها لم تتعرض لمصادرة كتبها إطلاقاً، وهو ما حصل في إسطنبول، إذ قامت السلطات، بناء على دعوى كيدية، بمصادرة كل الكتب البالغ عددها نحو 28 ألف عنوان بقيمة تصل إلى نحو 200 ألف دولار!.. وفق حديث مدير المكتبة، والحجة عدم وجود “البندرول أو اللصاقة المائية” التي تفرض تركيا وجودها على الكتب، وهي لا تتعلق بالضريبة أو “إذن التداول” إذ لا يوجد رقابة على الكتب في تركيا.
القديمي تابع الأمر مع وزارة الثقافة التركية والجهات المعنية، ووعدوه خيراً، إلا أن الكتب المصادرة لم تعد حتى اللحظة، فضخ في المكتبة 27 ألف كتاب جديد، مصراً على إكمال مشروعه بالشكل الأمثل، إذ إن الشبكة التي تأسست عام 2008 تعد مشروعاً ثقافياً تنويرياً غامر بتجاوز المحظور في عدة عواصم عربية، ولم يركن لتهديد أو منع أو يستسلم لظرف سياسي أو اقتصادي.. فالكتاب ليس سلعة بالمعنى التجاري، وفق رؤية نواف القديمي، وإنما هو مشروع معرفة لا يجب أن يُسمح بإطفائه أو انطفائه، وهو ما لا يدركه أصحاب “الدكاكين” الذين وظفوا الكتاب في خدمة الإيديولوجيا والأنظمة الحاكمة ومنطق السوق..
في مكتبات السوق، تسأل عن كتابك، تحظى به وتعانقه أو تخرج مكسور الخاطر، أما في مكتبة “الشبكة العربية” فأنت تعيش حكاية تبدأ مع ولوجك الباب، ستشعر بدفء المكان وحميميته، يمكنك أن تقرأ وتشرب الشاي في جو روائي، ووراء الباب الخلفي ستجد طاولة صغيرة وستة كراسي، جلس ويجلس عليها كل مساء شعراء وكتاب ونقاد ومفكرون وإعلاميون وقرّاء من كل الجنسيات والأعراق والتوجهات السياسية والاجتماعية، يجمعهم مضيفٌ خلوق هادئ، يبتسم للجميع، ويكرم وفادة الجميع، وتشعر أنه في صمته يعيد تنقية الهواء ليغدو ملائماً للحرية، التي لا يمكن أن تعيش ثقافة ولا إنسانية إلا في ظلالها الفسيحة بلا انتهاء.
عذراً التعليقات مغلقة