المشيخة بين المنابر والزوايا

عبد الناصر العمر حوشان28 ديسمبر 2022آخر تحديث :
المشيخة بين المنابر والزوايا
المحامي عبد الناصر حوشان

أثارت برقيات التعازي التي أرسلها بعض قادة المعارضة وقادتها الدينيّون بوفاة الحاجة منيرة القبيسي مؤسسة جماعة القبيسيّات النسويّة في سوريّة والتي توفيّت في مدينة دمشق يوم أمس، موجات من ردود الفعل والفعل المُضاد وصلت إلى درجة لا يُمكن تمريرها دون تسليط الضوء على هذه الظاهرة وأثارها السيئة.

المساجد بمفهومها الأعمّ هي دور للعبادة من صلاة وتفقيه في الدّين وتعبّد والاعتكاف ويُطلق على من يلازمها، روّاد المساجد، الذين يختلفون عن الأئمّة والخطباء، الذي يجب أن يتوفر فيهم العلم والفقه، وصلاح الحال، والعدل والشجاعة. والشجاعة أمرٌ نسبيٌّ فليس كلّ خطيبٍ عالمٌ شُجاعٌ فمعيار الشجاعة هو الجُرأة على الصَدْعِ بالحقّ في وجه كلّ ظالمٍ سواءً كان فرداً أو جماعةً، أو أميراً أو سلطاناً وكان يُطلق على أمثال هؤلاء لقب فرسان المنابِر تعبيراً عن أنّ الصدع بالحق هو جهادٌ في المعركة بين الحقّ والباطل وبالتالي فليس كل من صعد المنبر فارس.

وقد نشأت في مرحلة لاحقة من تاريخ الأمة الاسلاميّة مدارس دينيّة وعلميّة تُكمِّل دور المسجد في إعداد الانسان المسلم فِقهاً وديناً وتربية وخُلُقاً، سميّت بما يعرف بـ التكايا وهي أشبه بالمدارس الداخليّة في عصرنا الحالي.

ومع نشوء الطرق الصوفيّة وتعدّدها تحوّلت بعض التكايا إلى زوايا ولكل زاوية شيخ، ولكل شيخٍ طريقة ومريدين، يُعلِّمهم أصول الطريقة، وأعرافها وآدابها، ويلقِّنهم الأوراد وهي سلسلة من الأدعية المأثورة عن النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، وما تواتر من أدعية خاصّة عن مؤسّس كل طريقة.

وفي عهد النظام البائد والنظام الحالي الآيل للزوال بإذن الله وفي محاولة من حافظ أسد لتفريغ المساجد من دورها والقضاء على أي خطر أو تهديد قد يلعبه فرسان منابر الشام، كأمثال الشيخ حسن حبنّكة الميداني الذي وقف في وجه سلطات الانقلاب البعثيّ في عام 1966، وسعيد حوّى و محمد علي المشعل اللذين اعتقلا بعد مقاومتهما تمرير دستور 1973 وأمثالهم الذين أثاروا الرُعب في نفس النظام، والذي شرّدهم وهجّرهم خارج البلاد ليخلو له الأمر للقيام بحربه على ما تبّقى منهم بدايّة من عام 1979 ثم مجازر حماه وحلب وجسر الشغور وباقي محافظات سوريّة، فحوّل كل المؤسسات والجمعيّات الدينيّة على غرار النقابات المهنيّة إلى مؤسسات بعثيّة عمِلت كأداة قهرٍ وتسلّطٍ على الشعب السوري، وأصبحنا نرى أئمة وخطباء يعتلون المنابر وعلى خصورهم المكاروف وتحت عباءاتهم الكلاشنكوف.

وأصبح دخول المدارس الشرعيّة، والتكايا والزوايا رهناً بالموافقة الأمنيّة مما أنتج أجيالاً من الدُعاة المُخبرين الذين شهدناهم وما نزال على مواقع إعلام النظام يكيدون للثورة والثوار ويحضُرُني في هذا المقام أن أذكر أبرزهم وأكثرهم ظهوراً هو عصفور الكنيسة عمر الرحمون الذي كان مع رفيق دربه القِسّ معن بيطار نموذجين لهذه العينة التي لعبت دوراً هدّاماً في حياة السوريين على اختلاف طوائفهم في حماه من خلال العمالة للنظام واختراق الحواضن الشعبيّة، وقِس على ذلك ضفادع دمشق وشراغيف حلب ودرعا وحمص والحسكة والرقة ودير الزور وعصافير كنائس البلاد.

ويُتحِفُنا بين الحينِ والآخر أشخاص وجماعات يحاولون خلط الأمور وإيقاع اللّبس في فهم الناس عند تعاطيهم مع بعض الأحداث التي تقع على الضِّفّة الأخرى من معركتنا مع النظام المُجرِم، سواءً من خلال التعاطي مع أزمات النظام مع حاضنته، أو التعاطي مع أفراح وأتراح بعض الأفراد أو الشخصيّات المشهورة المُثيرة للجدل والتي لها موقع ما مؤثِّر في حاضنته سلباً وإيجابا، أو شخصيّات وجماعات ظاهرة العداء للثورة والثوّار عبر ارسال رسائل التهنئة أو رسائل العزاء من قِبل من يُحسبون على قيادة المُعارضة والقيادة الدينيّة لها وغيرهم من الشخصيّات المؤّثِرة على مستوى الثورة والمعارضة.

ما نودّ قوله بعد هذا الاستعراض: بأننا كلّنا كنا يوماً ما أفراداً أو أعضاءً في نقابات أو هيئات أو وظائف رسميّة أو روابط اجتماعية أو سياسية أو ثقافيّة أو دينية في عهد النظام البائد والنظام الآيل للزوال بإذنِ الله، وكلنا يعلم تمام العلم مدى تغلغل استخباراته في كل مناحي حياتنا، ومفاصل الدولة والمجتمع، وشراكته القسريّة مع أي سوري في ماله أو رزقه، وتغوّله على الحريّات والحقوق، وانتهاك كل المحرّمات، الأمر الذي دفع الأحرار للقيام بالثورة فتمايزت الصفوف وكّنا فسطاطين، فسطاط الحقّ، وفسطاط الباطل، وانشقّ منّا من انشقّ عن تلك المنظمات والهيئات والوظائف والأحزاب والروابط والحركات و… إلخ، وبقي من بقي، وعلى مدى 12 سنة زاد القتل والتدمير والتشريد فلم يعد يُقبل من احدٍ السكوت على ذلك وخاصّة ممن يجب عليهم اتخاذ المواقف، بعد تحوّل كل تلك الهيئات إلى أدوات بطشٍ وعربدةٍ في يد النظام ضد الثورة.

مشكلتنا عند التعاطي مع تشبيح من بقي هناك، أو مع من وضع نفسه موضع الشُبهة والاتّهام، تكمنً فيمن يتبرّع وينبري من أبناء الثورة أو المعارضة للدفاع عن أولئك، إنّ الحرّ الذي انشقّ عن تلك الهيئات والروابط والشيوخ والزوايا والتكايا والمنابر هو حجّةٌ لنا على من بقي من أولئك الذين ارتضوا الذلّ والهوان وربّما التشبيح والعدوان، فلا يُستساغ ممن انشق أن يحوّل نفسه حجّةً لهم علينا.

وأنّه من المُسلّمات المنطقيّة بأنّ المُستهدف في معركة الحق هو الباطلَ وأهلهُ، ولا يُمكن أخذ بريءٍ بجريرة غيره قريباً كان أو بعيداً، أو مريداً أو شيخاً طالما أعلن براءته من أهل الباطل وهؤلاء هم الأحرار المُفترض بأنّهم أهل فُسطاط الحقّ، والذين هم خارج دائرة الاستهداف أينما كانوا، ولا يجوز لهؤلاء أن يقفوا بمواجهتنا ضد فسطاط الباطل بحجة عدم جواز التعميم كونهم لم يعودوا مرتبطين بأولئك المجرمين إلّا إذا كانوا يرون غير ذلك.

وأنّ هناك واجبٌ وهناك أوجَبْ، طالما نحن أدعياء معارضة وثورة فالواجب التمسّك بثوابت الثورة، ومراعاة مشاعر أهلها، واحترام تضحياتهم، ومداراة جراحهم ومآسيهم، فإن كان البعض يرى بتعزية وتهنئة من شبّح أو امتنع عن اتخاذ الموقف في معرض الحاجة إليه ممن آثر السلامة والعيش تحت ظلّ الأسد واجِباً مفروضاً عليه، فالأجدر به ألّا يؤذي أهل الثورة وجرح مشاعرهم، فمن مات من أولئك ذهب إلى ربّه ولن تصله تعازيه، وربّما دعواته.

وكيلا يؤّول كلامنا على أنّه تألٍّ على الله، فمن مات أيّاً كان، فقد انتقل إلى جوار ربِّه بما له وعليه، وليس لأحدٍ أن يحكم له بالجنّة أو النار، ولكن وكُلُنا نعلم أن الميت موقوفٌ في قبره حتى يؤدّى عنه حقوق العباد، لذلك نسمع من مُلقّني الموتى طلب السماح لهم ممّن له عندهم مظلمة.

فيخرج علينا البعض ليتعنّت في استغلال موت هؤلاء لتحسين صورة من ورثهم أو ما كانوا يُمثِّلون من أفكار وتيارات وهيئات ثَبُت انحرافها أو سقوطها، واستفزازهم الناس التي لها مآخذٌ أو مظالمٌ عند من يموت ومن ثم اتهامهم في دينهم وأخلاقهم، ورُبّما تكفيرهم وهو أبشع صور الإرهابٌ الفِكريٌّ الذي ينمُّ عن تعالٍ وتجنّيٍ على العِباد، لأن هؤلاء يحكمون بما علموه بذواتهم عن الموتى ويفرضون ذلك على الناس، متناسين وهم الفقهاء القاعدة الفقهيّة التي تقول: لا يجوز للقاضي الحُكمُ بعلمه الشخصيّ.

ونقول لهؤلاء بأننا نملِك من المروءة، ومن الخوف من الله والتقوى من أنّ نقع في عِرضِ أو شرفِ من انتقل إلى جوارِ ربّه، ونعلم أدبَ الجوارِ مع جيراننا من بني البشر، ومن باب أولى نعلم أدب التعامل مع جِوارِ الله سبحانه وتعالى، وأنّ مشكلتنا مع هؤلاء ليست مشكلة شخصيّة، وإنّما هي قضيّة رأي عامّ تمسّ حقوق العباد، وأعراضهم ودمائهم، وليست قضيّة علاقة مُريدٌ مع شيخه أو حال شيخٍ مع ربّه.

وأنّ القبيسيّة طريقةٌ وليست شريعة ومثلها مثل باقي الطرق المعروفة في سوريّة والتي انقسم أتباعها بين مؤيّدٍ وشبّيحٍ للنظام، وبين ناءٍ بنفسه، وبين مُتَبرِّئٍ منها، والقبيسيّات لسن مُجرّد أفرادٍ من النسوة بل هُنّ زوجاتٍ وأمهّاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ وجدّاتٍ وحمواتٍ، وبالتالي ليست القبيسيّة حِكراً على النساء فهناك القبيسيّون الذكور أزواجاً وأخوةً وأبناءً وآباءً وعمومةً وخؤولة وأصهاراً ونسباً، فمنهم من آثر سلامة دينه وعِرضه وماله ونفسه ففرّ منها، ومنهم من نأى بنفسه، ومنهم من ضلّ وأضلّ وجنّد وزجّ بنفسه وأبنائه وإخوانه وأنسبائه وأصهاره في ميليشيات التشبيح فمن بقي من هؤلاء هم الرحم القبيسيّ للأسد.

 وأخيراً فمن كانت حجارة تكيّته أو زاوية شيخه أعظم وأعزّ من دمِ امرئٍ مُسلمٍ، فليراجع دينه. قال الله تعالى: وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109). صدق الله العظيم.

المصدر نينار برس
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل