بيدين ترتجفان تمسكان ورقة بيضاء، قرأت نجاح العطار كلمات شكرها لرئيسها بشار الأسد، واصفةً إياه بـ”الحازم والمتواضع وبأنّه يملك ما يكفي لتحقيق ما يصبو إليه السوريون”، بعد أن منحها وسام “أُميّة الوطني ذات الرصيعة” في حفل “وطني” حظي بتغطية إعلامية واسعة نهاية الشهر الماضي.
تكريم العطار جاء بعد صدور كتابها بعنوان “الرئيس الأسد مسيرة من البطولات والتضحيات”، والتي أرادت من خلاله توثيق أحداث سنوات الثورة السورية على مقاس بشار الأسد الذي قالت عنه يوم مسرحية انتخاباته 2021: “سوريا لا يليق بها القيادة سوى من الرئيس الأسد”.
ولعلَّ اختيار اسم الكتاب وتوقيت منح الوسام الذي يرمز للدولة الأموية، ليس اعتباطياً، فمن جهة يريد بشار الأسد أن يعلن عن انتهاء حربه من خلال هذا الكتاب الذي يؤرخ “انتصاراته”. وكأنَّ الثورة السورية انتهت، حسب زعمه.
ومن جهة أخرى، يأتي اختيار الوسام في إطار التضليل وتكريس الأسد لمقولته الشهيرة “اكذب اكذب حتى تصدق”، ليُبين أنَّه يُمثل جانب بني أمية المختطف والحضارة التي سرقتها إيران عبر إقامة المراسم الدينية الشيعية في عقر دار بني أميّة لا سيّما المسجد الأموي الكبير في دمشق.
هذا الوسام الذي أقرّه المرسوم رقم 49 في تموز 1934، ليُمنح لشخص قدّم خدمات كبرى لبلده أو من الأجانب سواء عسكرية أم مدنية، وله درجات “ذو الوشاح، ذو الرصيعة (يتوسطه كلمة أميّة محاطة بثلاث نجوم حمراء صغيرة)، ذو العقد”، ويُعدّ من أرفع الأوسمة السورية.
لعبت العطار دوراً مهماً من ثلاثة محاور: الأول كونها دمشقية من الطائفة السنية، الثاني كونها امرأة، الثالث شقيقها من رموز المعارضة للنظام.
أراد حافظ الأسد الذي عيَّن العطار وزيرة للثقافة منذ عام 1976 حتى وفاته عام 2000، أن يعطي نفسه صورة شكلية تنفي صبغة الطائفية عن نظام حكمه المشبع بالطائفية من أعلى مركز وظيفي إلى أدنى مستوى، فيكفي أن تتكلم اللهجة العلوية لترعب أيّ مواطن سوري مهما علت رتبته العلمية أو الاجتماعية.. وهذا ما أثبته من جديد اليوتيوبر الحلبي يمان النجار عبر مقالبه من خلال تقمصه شخصية ضابط علوي.
وتجلّى الحفاظ على منصب هذه السيّدة التي تُعتبر من الموروث المهم الذي حظي به الابن بعد تولية السلطة عام 2000، فاستغل هذه المرأة المتحررة، وعيّنها نائباً لرئيس الجمهورية العربية السورية منذ عام 2006 وحتى تاريخه، وهو يعدّ أول منصب تناله امرأة في تاريخ سوريا، ولا يعدو كونه منصباً صورياً في سبيل “الديمقراطية” الاستبدادية، وهو يُجسّد محاولة لتغطية جرائم النظام ضد المرأة السورية التي إن لم يقتلها بالقصف أو بالرصاص أو بالتعذيب في سجونه، فسوف يقتلها بمصارعة دوامة الحياة سواء بمناطقه أو في المنفى.
فالأسد من خلال ما يفعله من مراسم يدّعي من خلالها قربه من الشعب واهتمامه بالمميزين منهم، ليثبت بأنَّه رئيس إنساني/وطني، إذ قال بكلمته في حفل تكريمها: “الإنجازات هي بحدّ ذاتها أوسمة يحملها صاحبها، والوسام لا يُمنح لوسام” وشدّد على أنَّ التكريم بهدف “وطني” بحت، مخاطباً إياها كنموذج للمجتمع الدمشقي المحافظ (السني). وإظهاراً لاهتمامه بالمرأة وحقوقها في ظلّ الاهتمام العالمي بها، فهو لأول مرَّة خاطب النساء في الاحتفال بعيد المولد النبوي هذا العام.
من المعروف عن نظام الأسد أنَّه يتبع النمطية في ملاحقة المعارضين له، لدرجة أنَّ حواجزه العسكرية لاحقت السوريين على الهُوية بسبب انتمائهم لحي برز اسمه في مظاهرات 2011 أو لأن كنيتهم تشبه كنية شخص برز اسمه بالثورة.. لكن في حالة نجاح العطار قام بتوليتها المناصب وتقليدها الأوسمة رغم أنَّ شقيقها عصام العطار ممثل حزب الإخوان المسلمين وله رمزية تاريخية في سوريا، والذي حاولت أجهزة الأسد الأمنية اغتياله في ألمانيا، نجم عن إحداها مقتل زوجته بنان علي الطنطاوي عام 1981. وإن كان من عائلة أيّ سوري شخص ولو من قرابة الدرجة العاشرة له صلة بالإخوان المسلمين، فإنَّ النظام لا يقبل به بأيّ وظيفة حساسة ولا يقبل تطويعه بالجيش.
وعندما ارتكب حافظ وشقيقه رفعت مجزرة حماة في شباط 1982 وما سبقها وتلاها من ملاحقات أمنية شرسة لأيّ سني بتهمة هذا الحزب، فقتل مئات الآلاف إمَّا ميدانياً أو في سجونه لا سيّما سجن تدمر الشهير، كانت العطار مستمرّة بدعمها الكامل لحافظ الذي جمعتها علاقة عائلية وصداقة وثيقة مع زوجته أنيسة، وباتت وظيفتها الفعلية كتابة المؤلفات في مدح حنكة الأسد الأب ومن ثم تسخير كلماتها المنمّقة في وصف انتصارات الابن.
وفي نظرة بانورامية، تزامن التكريم مع انعقاد القمة العربية في الجزائر تحت شعار “لمّ الشمل” والتي عجزت عن إعادة بشار الأسد لمقعد سوريا بسبب الرفض السعودي- القطري ومن خلفه أمريكا، ونلاحظ رغبة زعماء العرب في محو سجل جرائم الأسد دون محاسبة، وهذا ما أكده الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط الذي دعا في كلمته إلى “تسوية الوضع المأزوم في سوريا وغلق صفحة الماضي بآلامها، والسعي نحو وضع جديد يتيح لدمشق العودة إلى الانخراط في الجامعة”.
فيما تسعى دول الجوار إلى إعادة العلاقات مع الأسد، فبعد أن أجرى العاهل الأردني عبد الله الثاني اتصالاً هاتفياً مع بشار الأسد في الشهر العاشر من العام 2021 هو الأول منذ قطع العلاقات في العام 2011، بالتزامن مع زيارات على مستوى الوزراء، بدأت تركيا التمهيد لعودة علاقتها مع الأسد عبر دعوتها المعارضة السورية بأن تتصالح مع المجرم بشار، وهذا ما قوبل برفض شعبي قاطع عبر شعار “لن نصالح”، بالتزامن مع العزف على وتر العودة الطوعية، حيث بدأت لبنان في 26 الشهر الماضي تسيير أول دفعة من اللاجئين السوريين إلى بلدهم، سبقها بيوم تقليد رئيسها ميشال عون سفير سوريا في لبنان علي عبد الكريم علي، وسام “الأرز الوطني”.
ورغم أنَّ جرائم الرئيس الروسي بوتين في أوكرانيا قد أعادت تسليط الضوء على جرائمه في سوريا منذ العام 2015، بعد أن كان الملف السوري قيد النسيان، فما يزال الجمود يتسيَّد المشهد لا سيّما بعد إيقاف المبعوث الأممي غير بيدرسون اجتماعات اللجنة الدستورية بسبب الخلاف على مكان انعقادها، كما أقرّ في كلمته الأخيرة لمجلس الأمن الدولي بأنَّ “العملية السياسية لم تُحقق شيئاً للشعب السوري حتى الآن”.
وسط طرح مشاريع متعددة لإيجاد حلّ سياسي لكنّه على ما يبدو يدور في فلك إبقاء الأسد في السلطة، والذي يحاول صنع بيئة مناسبة للتأثير الإعلامي على الرأي العام العربي والعالمي من أجل تسويق نفسه لتهيئة السياسيين العرب والأجانب لإعادة تدويره دون صدام مع الشعوب المتعاطفة مع السوريين.
نجاح العطار (89 عاماً) شارك زوجها الطبيب ماجد العظمة بدعم جيش الأسد كونه ضابطاً برتبة لواء وشغل منصب المدير العام لإدارة الخدمات الطبية العسكرية في القوات المسلحة السورية. وها هي في أرذل العمر، تطلُّ كعجوز شمطاء لا تعرف التوبة، وماتزال عائلةُ الأسد بالنسبة إليها إلهاً تعبدُهُ منذ نعومة أظفارها.. لكن لم ينسها المتظاهرون الأحرار في شعاراتهم حين رددوا: “ساقط ساقط يا بشار، تضرب أنت ونجاح العطار”.
Sorry Comments are closed