بينما كانت العاصمة الأوكرانية كييف تتعرض، صباح يوم الاثنين، لقصف روسي “انتقامي” سرعان ما عاد السوريون بالذاكرة إلى الوراء، مستذكرين الظروف ذاتها، والتي عاشوها ويعيشوها منذ سنوات، وحتى أن البعض منهم بات يتوقع أن يتجه فلاديمير بوتين لـ”سياسة الأرض المحروقة”، بعد سلسلة الضربات التي تعرضت لها قواته في الأيام الماضية، وعقب تفجير “جسر القرم”.
ومنذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا ربط الكثير من السوريين والأوكرانيين الساحتين ببعضهما البعض، من منطلق أن منفذ “الغزو” واحد، بينما أصبحت الشخصيات التي تقوده هي نفسها، فالجنرال الجديد، سيرغي سوروفيكين كان سابقا في سوريا والآن يقود حملة بلاده في أوكرانيا، وقبله “جزار حلب” (ألكسندر دفورنيكوف)، والكثير من قادة العمليات الآخرين.
وتعتبر سوريا الساحة الأخيرة قبل أوكرانيا، والتي لعبت فيها القوات الروسية دورا أساسيا في سياق العمليات العسكرية الكبيرة التي أطلقتها لدعم رأس النظام السوري، بشار الأسد، مستخدمة ترسانة عسكرية كبيرة، من الجو والبحر والبر، وهو ما أشار إليه المسؤولون الروس الكبار مرارا، على رأسهم بوتين، معلنين عن تجريب أصناف مختلفة من الأسلحة فيها، واكتساب “الخبرات” أيضا.
وفي تصريحات منفصلة لوزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، خلال السنوات الماضية، أعلن أن بلاده اختبرت جميع الأسلحة الروسية الحديثة في عملية “مكافحة الإرهاب” في سوريا، حسب تعبيره.
وبين عامي 2020 و2021 قال شويغو إنه “تم اختبار أكثر من 320 نوعا من الأسلحة”، وإن “صناعة الدفاع الروسية عززت مواقعها بشكل كبير في السنوات الأخيرة”.
بدوره كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اعتبر في أبريل 2020 أن “الزيادة الحاصلة في تصدير الأسلحة الروسية إلى دول العالم، رغم المنافسة الشديدة في هذا المجال، يقف وراءها الاختبار العملي لهذه الأسلحة في سوريا”، وبسبب “التجربة الناجحة في استخدام الأسلحة الجديدة”.
اليوم وفي وقت يرى فيه مراقبون أن الحرب في أوكرانيا “دخلت مرحلة جديدة” بعد تفجير “جسر القرم” وما تبعه من رد انتقامي تثار تساؤلات عن ماهية الاستراتيجية العسكرية التي باتت تتبعها موسكو في حربها ضد كييف، وعما إذا كانت تشابه إلى حد ما تلك التي اتبعتها في سوريا، أو تعتمد كأساس عليها.
علاوة على ذلك، هناك أسئلة أخرى تتعلق بالأسباب التي تدفع بوتين لاختيار الأسماء التي برزت في قيادة الحملة السورية، كان آخرها “سوروفيكين”، والذي وصفته منظمة “هيومن رايتس ووتش” في إحدى تقاريرها سنة 2020 بأنه بين القادة العسكريين الذين قد يتحملون “المسؤولية عن الانتهاكات” التي حدثت في سوريا.
“رهان خاطئ ووهم”
وبعد تدخلها في عام 2015 استخدمت روسيا في الحملة التي قادتها بسوريا “سياسة الأرض المحروقة”، أو كما يصفها مراقبون بـ”الحرب بلا قواعد”، ما أسفر عن مقتل آلاف المدنيين، حسب ما وثقت منظمات حقوق إنسان محلية ودولية.
إذ كانت تركز في قصفها على الأحياء السكنية، أولا في مدينة حلب، ومن ثم وبشكل متتابع في حمص وريف العاصمة دمشق ودرعا جنوبا، وبينما استخدمت أسلحة متنوعة كان على رأسها الطائرات الحربية الحديثة، صدّرت الكثير من أسماء قادتها على الواجهة، على أنهم “حققوا الانتصارات” في الحرب ضد “الإرهاب والإرهابيين”.
وبينما مرت السنوات واستمر فيه “عداد القتل” في البلاد، وأعلنت فيه موسكو تحقيق أهدافها في سوريا، جاءت حملتها في أوكرانيا، لتكون الثانية في نوعها، خلال سبع سنوات، لكن لا مؤشرات على “الانتصار” حتى الآن.
وعلى الرغم من أن الظروف والدوافع تختلف في كلا الساحتين، إلا أن نقاطا مشتركة تجمع بينهما، أولا من حيث قادة الحملات العسكرية على الأرض، وصولا إلى الرواية الرسمية التي تتحدث عن “إرهابيين” وعمليات “إرهابية”، كما حدث مؤخرا بشأن حادثة “تفجير جسر القرم”.
لكن ومع ذلك يرى مراقب روسي أن هناك نقاط اختلاف أيضا بين الحرب في سوريا وأوكرانيا، من زاوية الأطراف المنخرطة في الصراع من جهة، والتكتيكات العسكرية المتبعة من جهة أخرى، فيما يشير من جانب آخر إلى ما وصفه بـ”الرهان الخاطئ”.
ومن الواضح، وفق أنطون مارداسوف، وهو خبير روسي وباحث في “معهد الشرق الأوسط” أن الحملة الروسية في سوريا “كان لها تأثير سلبي على القوات الروسية، لأنها أخفت مشاكل الجيش، بدلا من كشفها”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن حجم العمليات العسكرية واستخدام المعدات والتغطية الإقليمية في أوكرانيا لا يمكن مقارنتها على الإطلاق بسوريا.
ويضيف مارداسوف لموقع “الحرة”: “هناك الكثير من المشاكل الصغيرة مثل الرهان الخاطئ على مزيج المدفعية والقوات الخاصة، والذي كان فعالا في سوريا، بينما كان أمرا ضارا للغاية في أوكرانيا”.
وعلى الرغم من “وجود تقنيات مشتركة”، فلا جدوى من مقارنة هذه الحروب، في إشارة من الباحث الروسي إلى ما حصل في سوريا ويحصل في أوكرانيا، لكنه استثنى أن “الحملة السورية أعطت الكرملين الوهم بأن القوات كانت جاهزة للقتال”.
من جهته يرى الباحث الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، راين بوهل، أن اعتماد بوتين الآن على قادة حملته في سوريا في أوكرانيا يشير إلى أنه “يتدافع بحثا عن قادة عسكريين متمرسين، ويتمتعون بثقة الجمهور أيضا”.
ويقول بوهل لموقع “الحرة”: “يُنظر إلى المهمة في سوريا على نطاق واسع على أنها تدخل روسي ناجح، وبالتالي فإن الجمهور على استعداد لمنح القادة المرتبطين بهذه المهمة فائدة الشك عندما يتعلق الأمر بالحرب في أوكرانيا”.
ومع ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا مختلفة اختلافا جوهريا عن تلك التي حصلت في سوريا، ومن المحتمل ألا تُترجم “تجربتهم (الروس) في سوريا بشكل جيد إلى ساحات القتال في أوروبا”.
ويضيف الباحث الأميركي: “في سوريا، كانوا يقودون قوة تدخل خفيفة الأثر تدعم إلى حد كبير الميليشيات على الأرض التي تقاتل ضد متمردين أدنى من الناحية التكنولوجية”.
ويتابع: “على سبيل المثال، كان لديهم دائما رفاهية تنفيذ طلعات جوية، مع العلم أن المتمردين السوريين ليس لديهم سوى القليل من المناوئة لهم”.
ويقول بوهل: “لكن لن يكون هذا هو الحال في أوكرانيا حيث حول الجيش الأوكراني نفسه إلى آلة عسكرية حديثة”.
“تجربة ليست حاسمة”
وحتى الآن لم تتضح مآلات الحرب التي تقودها موسكو ضد كييف، وما الذي يمكن أن تشهده الأخيرة في المرحلة المقبلة، لا سيما وأنه بعد “القصف الانتقامي” ردت الدول الغربية بسلسلة قرارات قدمت من خلالها دعما جديدا للجيش الأوكراني، وخاصة بـ”أنظمة الدفاع الجوي المتطورة”.
وعلى الطرف الروسي لطالما أبدى مسؤولون نية “التصعيد”، خاصة بعد تفجير “جسر القرم”، الذي كان بمثابة “محطة بارزة” في سياق الحرب التي بدأتها روسيا.
وكان أوليغ موروزوف، عضو مجلس الدوما الروسي، قد قال بعد حادثة الجسر إن الجانب الأوكراني يتحدث منذ فترة بعيدة عن استهداف جسر القرم، وهذا “العمل الإرهابي ضده ليس مجرد تحد، بل إعلان حرب بلا قواعد”.
وأضاف موروزوف، الذي يمثل حزب “روسيا الموحدة” في المجلس، يوم السبت: “يجري تنفيذ حرب إرهابية غير مقنعة ضدنا. والهجوم الإرهابي على جسر القرم الذي تم الإعلان عنه منذ فترة طويلة، لم يعد مجرد تحد، بل هو إعلان حرب بلا قواعد”.
ولا يؤيد الباحث الروسي، أنطون مارداسوف استخدام “الكليشيهات السائدة”، حسب تعبيره، في رده على سؤال يتعلق بالتوقعات التي تشير إلى استعداد موسكو إلى تطبيق “سياسة الأرض المحروقة” في أوكرانيا.
ويوضح: “لأن أي حرب في المناطق السكنية من وجهة نظر عسكرية هي سياسة الأرض المحروقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحرب بين الجيوش النظامية”.
ويتوقف كل ما سبق على “حجم الأسلحة المستخدمة، وتوازن القوة والوسائل، والتقنيات المستخدمة من قبل الجانبين”. ويضيف الباحث: “في الحرب الأوكرانية، هناك العديد من اللاعبين المشاركين في الصراع”.
في الأيام الأولى للحرب الروسية في أوكرانيا، كان هناك محاولات من قبل القوات الروسية لتطويق المدن والاستيلاء على المناطق باستخدام القوات الخاصة والأسلحة الصغيرة فقط.
ولكن بعد الفشل بدأ الكرملين في استخدام أسلحة أكثر خطورة، والتي تم استخدامها على سبيل المثال، في ماريوبول، التي تدمرت بشدة، في شهر أبريل الماضي، بعد حصار دام لأسابيع.
وفي الوقت نفسه، يشير مارداسوف إلى أنه “لم يتم إيقاف نقل الغاز عبر أوكرانيا، مما يعني أن هناك الكثير من القيود السياسية المختلفة في هذه الحرب (أوكرانيا). هذا الأمر يفضل الكثير من الناس عدم ملاحظته”.
من جانبه يرى الباحث الأميركي، راين بوهل أنه “من المحتمل أن يتمكن قائد روسي أو آخر أخيرا من تجميع نوع من الاستراتيجية العسكرية الروسية القابلة للإصلاح في أوكرانيا، لكن تجربتهم في سوريا ربما لن تكون حاسمة في تلك القصة”.
ويشير بوهل إلى أن “أبطال التدخل السوري المفترضين قد حوكموا بالفعل وطردوا. ألكسندر دفورنيكوف، على سبيل المثال، يبدو أنه قد تم تهميشه على الرغم من سجله الحافل في سوريا”.
وفي شهر يونيو الماضي كانت وسائل إعلام غربية قد أفادت بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقال قائد القوات الروسية في أوكرانيا الجنرال ألكسندر دفورنيكوف الملقب “جزار حلب” نتيجة التقدم البطيء في دونباس.
وذكرت صحيفة “تلغراف” أن تقارير أفادت أن دفورنيكوف، الذي اختير لقيادة الهجوم في شرق أوكرانيا في أبريل الماضي، “شوهد مخمورا أكثر من مرة وفقد ثقة بوتين”.
ومنذ نشر هذه التقارير لم يصدر أي قرار رسمي من الجانب الروسي بخصوص دفورنيكوف وإقالته، إلى أن جاء تعيين خلفه “سيرغي سوروفيكين”، بعد سلسلة إخفاقات كبيرة للجيش الروسي في أوكرانيا، آخرها على جبهة خاركيف ومنطقة خيرسون.
Sorry Comments are closed