يجزم صالح مسلم، الرئيس المشارك لحزب الاتحاد الديموقراطي “الكردي” في سوريا، بأن التطبيع بين الأسد وأنقرة مصيره الفشل، مشبِّهاً إياه بالزواج القسري الذي تسعى إلى إتمامه موسكو وطهران. لا يعتقد مسلم أن هذا التطبيع سيتطور ويأخذ شكل العلاقات الودية، كسابق عهدها قبل 2011، لوجود تناقضات وخلافات كبيرة بين الدولة السورية وتركيا، وهي أعمق بكثير من أن تقفز “الدولة” فوق كل شيء لمحاربة الإدارة الذاتية، وجزء من الشعب السوري. انتهى الاقتباس من الحوار الذي أجراه كمال شيخو مع صالح مسلم، والمنشور في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/10/2022.
إن أي قارئ يعرف القليل عن سلطة الأسد سيرى في ما سبق نكتة، إذ لا تستقيم هذه الثقة بالأسد من جانبين، أولهما الحديث عن خلافات وتناقض عميقين، وكأن هذا أعاق التنسيق بينه وبين أنقرة في ما يخص الشأن الكردي تحديداً، وفي الأوقات التي سبقت سنين العسل بينهما. الجانب الآخر، المثير للضحك، ما يبدو أنه استبعاد لقفز ما يسميه “الدولة السورية” فوق كل شيء لمحاربة الإدارة الذاتية وجزء من الشعب السوري. الأكراد على الأرجح هم المشار إليهم كجزء من السوريين، ووجه النكتة الأول الإشارة إلى الأسد بتعبير “الدولة السورية”، ووجهها الثاني استصعاب أن يحارب الأسد الأكراد، وكأنه لم يرتكب لتوه المقتلة الأكبر في هذا القرن!
السيد صالح مسلم لا يمزح، لا في ما سبق ولا في الاقتباس التالي من حوار له على قناة روج آفا بتاريخ 24/8/2022: “لا يمكن للنظام السوري وتركيا الوصول إلى أي اتفاق. فقد قُتل حتى الآن نصف مليون سوري، من المسبِّب؟ المسبّب هو تركيا. إلى الآن يوجد الآلاف من المرتزقة ضمن المناطق المحتلة ويقتلون السوريين”. وكما هو واضح يستخدم مسلم صيغة المبني للمجهول في فعل القتل، ثم بالإحالة إلى تركيا ومرتزقتها يبدو كأنها هي وإياهم قتلوا نصف مليون سوري، وربما أجبروا “الدولة السورية” المسكينة على قتل البعض منهم دفاعاً عن النفس.
ثم بعد تلك العبارة، في الحوار نفسه على روج آفا، أطلق مسلم خلاصة أثارت السخرية لدى ناشطين أكراد بقوله: “إن الذي أوصل تركيا إلى هذا الحال والذي أجبر تركيا على التنازل والتوسل لحكومة دمشق هو نضالنا هنا في شمال وشرق سوريا”. وكأنه في هذا يختزل كل ما يُحكى في إعلامه الحزبي نفسه عن بطولات وتضحيات بوظيفة محددة، هي دفع تركيا للتوسل، أو أن أقصى ما يطمح إليه الأكراد هو ذهاب أردوغان صاغراً إلى الأسد الذي سيوبخّه على موقفه المعادي للأكراد، ولن يتباحث معه في أنجع السبل “وربما أشدّها دموية” لقمعهم.
لن يكون مستغرباً ومثيراً للضحك بعد ذلك قول السيد مسلم، في حواره مع الشرق الأوسط، أنهم يؤمنون بأن حزب العمال الكردستاني ليس إرهابياً، وإنما تم وضعه على قائمة الإرهاب بناء على مطالب وضغوط تركية. وكأن قوائم الإرهاب لا توضع أو يُضاف إليها كيان أو أفراد جدد بطلب من دولة ما، أو بطلب من عدة دول. الأكثر طرافة هو نفي مسلم أية صلة عضوية أو تنظيمية بحزب العمال، واقتصارها على “الفلسفة المشتركة” بين الحزبين بحسب تعبيره.
تكاد كلمة “كادرو”، وهي على الأرجح اللفظ الكردي لكلمة “كادر” بمعنى قيادي، أن تُفهم في مناطق الإدارة الذاتية الكردية كإشارة إلى قيادي من حزب العمال حصراً، والمقصود بها أولئك الآتين من التنظيم التركي الأم، ويتحكمون بمفاصل الإدارة الذاتية بحسب روايات لناشطين أكراد، والبعض من أولئك الـ”كادرو” مثار تندر لأنه يتحدث التركية ولا يعرف الكردية. على سبيل المثال، نقلاً عن ناشطين أكراد في اعتصام “غير مرخَّص من الإدارة الذاتية” قبل أسبوع في مدينة القامشلي، كانت الـ”كادرو” التي تتحدث بمزيج من الكردية والتركية توعز إلى قوات الأسايش بإطلاق الرصاص الحي على المحتجين إذا لم يتفرقوا خلال مهلة محددة من الدقائق. هذا هو حزب السيد مسلم الذي لا صلة عضوية أو تنظيمية له بحزب العمال، وقائمة الأمثلة طويلة إذا أردنا التقصي عن كل “كادرو” وراء نظيره من الفرع السوري.
الرد على النشطاء الأكراد الذين يوردون تلك الوقائع يكون غالباً باتهامهم بأنهم من جهات حزبية معادية لمنظومة حزب الاتحاد الديموقراطي، وموجودة في الحضن التركي، وهي تهمة تعني التخوين في العرف السائد. مثلاً، في حواره المنشور يوم الأحد، يتهم مسلم “المجلس الوطني الكردي” بعرقلة الحوار الكردي-الكردي، لأن المجلس موجود في الحضن التركي. ويدين المجلس لأنه لا يعترف بسلطة الأسايش “قوى الأمن الداخلي”، وعلى ذلك “دائماً حسبما يقول مسلم” رفضَ المجلس التقدم بشكوى إليها عندما هاجمت منظمة الشبيبة الثورية التابعة لحزب الاتحاد مقرات المجلس الوطني، ثم يدين الأخير لأنه يرفض أيضاً طلب تراخيص لأحزابه التي لا تعترف بشرعية استفراد منظومة الحزب بالسلطة.
لا تخطئ بوصلة السيد مسلم إطلاقاً في الإشارة إلى الشمال “تركيا” كمصدر مستدام للشرور، وهي وجهة نظر لها أنصار خارج منظومة حزبه وحزب العمال الأم. ولسنا في صدد نقض هذا التصور إلا بقدر ما تكون تبعاته فادحة ومنافية للعقل، أو تأتي كأنما يتعمد أحد ما إلقاءَ النكات الفاحشة من نوع تحميل تركيا مسؤولية مقتل نصف مليون سوري، وتبرئة الأسد من دمائهم. نعلم، بخلاف الوقائع، أن اتهام تركيا يستدعي تبرئة الأسد، وتبرئة الأخير إذا كانت هدفاً أساسياً للسيد مسلم تقتضي البحث عن عنوان آخر للقاتل.
بدل إلقاء الركاكة المضحكة من حوار لآخر، لو أن السيد مسلم “ومن يعتنق الأفكار ذاتها” خرج علينا بالقول أنه يرى القضية المركزية للأكراد في تركيا، وما لم تُحل هناك لن تجد لها الحلول المتمناة في الدول الثلاث الأخرى. هذا منطق يمكن احترامه عندما يعلَن صراحةً، وإن ذكَّر بمنطق عربي مشابه يحيل أصحابه كافة الكوارث إلى وجود إسرائيل، مؤجِّلين بذلك الاستحقاقات في بلدانهم حتى تُحَل القضية المركزية.
أما أن تُسوَّق ضمناً المطالبُ الكردية في سوريا كجائزة ترضية متواضعة، لأن القضية المركزية في تركيا لا تجد حلاً، فهي وضعية مطابقة تماماً لوضعية أولئك الذين يتلقون الأوامر بكل رضى من “كادرو” التركي، وهذا ما يستحق أكراد سوريا أفضل منه بصرف النظر عن مقدار تعاطف كل منهم مع أشقائه في تركيا. وعندما نناقش أقوال صالح مسلم فلأن حزبه، شئنا أم أبينا، أعجبنا أو لم يعجبنا، هو المسيطر على مساحات واسعة من كوباني إلى الجزيرة السورية، وبحكم سيطرته على الأرض توسعت سيطرته على العقول، وسيكون مؤسفاً أن تؤمن تلك العقول بما هو في أحسن حالاته يصلح كنكتة لا أكثر.
عذراً التعليقات مغلقة