يتعاظم حضور الموت من حولنا كلّ فترة، فتنتشر النعوات على وسائل التواصل الاجتماعي ومعها التعازي وعبارات الألم والمواساة المرافِقة، بما يُنهي، سورياً وفلسطينياً (أو عراقياً ويمنيّاً) ولبنانياً على الأقل، كلّ فارق بين ما كان يُسمّى «عالم الافتراض» والواقع ويُزيل الحدود بين الموت كشأن خاص وكخبر عام، فيدعونا يومياً لنكون شهوداً على ذلك. إذ كيف للموت أن يبقى افتراضياً حين يُنبئ بنهايات فعلية ويُعلن قسوة فقدان حقيقي؟ وكيف للمشهديّة الموثِّقة وقوعَه أن تُبقي حدوداً بين عوالم خاصة وعامة اخترقتها صوَر الموتى وأسى ذويهم، وواحدنا يراهم على الشاشة الثابتة وعلى الهاتف الجوّال كل يوم؟
الأدهى والأكثر فظاعة هي أحداث هذا الموت المُعلن والمُباحة تفاصيلُه إذ تُفني أفراداً أو جماعات أو تلتهم أناساً ضافت بهم السبل في بلادهم ولفَظهم القتل والقمع والعوَز، فتاهوا في بحر أو في أرض قاسية أو وصلوا منفىً لم تحُل احتمالاته ووعوده دون لوعة الغياب ووِحشة القبر.
البحر مدفناً
ولعلّ التيه في البحر وتحوّل الأمواج إلى مقابر للأحلام والحسرات وإلى معرض للأشياء والحقائب المبعثرة، صارا أشدّ أهوال الموت حضوراً أمام أعيُننا، كمرادفَين للقهر وللغضب (العاجز) تجاه أنظمة افترست مجتمعاتها وحطّمت آمال أكثرية البشر فيها. فأن تكون المراكب الصغيرة وستر النجاة الموهومة ومخاطر الأوزان الزائدة والعتمة فوق مياه لا شيء يقي «المسافرين» من تيّاراتها وعلّو موجها أقلّ تخويفاً لهم من يوميات حياتهم في ديارهم، وأن يُؤْثِر «الهاربون» الغرق اللاحق على الإنقاذ المُفضي بهم إلى سجون بلادهم وجلّاديها، ففي الأمر ما لا طاقة لأحد على احتماله. فكيف إذا أضيفت إليه صُوَر بثّ مباشر تُظهر تخلّص أهلٍ من جثامين أحبّة قضوا خلال الإبحار ثم المنع من الرسوّ، تخفيفاً لأوزان المراكب ولتبعات تحلّل الجثامين فوقها؟ كأن في فعلهم البائس والمفجع هذا، الدافن الموتى في سرير المياه، ما يُشبه إلقاء الأضاحي القديم في الأنهر أو البحار الذي أريد له إرضاء آلهةٍ وكفّ شرّها. أو كأنهم في دفنهم البحري يحاولون تقليص مساحة الموت على الأخشاب المتهالكة المبحرة بهم، كي يصل بعض الأحياء من بينهم أخيراً إلى ضفّة الخلاص البعيدة.
هكذا يتحوّل المتوسّط في عدد من مواضعه إلى مقبرة جماعية تذوب الجثث في ملحها وتتبخّر الآمال تحت شمسها، ولا يتوقّف رغم ذلك تدفّق يائسين إليه من الشرق والجنوب لا يرون في مخاطره ما قد يكون أبشع من عيشهم السابق وأفقه المسدود أو الموت البطيء الزاحف عليهم فيه.
الموت في المنفى
على أن الغرق في البحر المتوسّط الذي لم يُعد يُثير نفس الانفعالات ولا نفس التغطية الإعلامية، لتكراره وتحوّله إلى خبر لا جديد فيه سوى أسماء الضحايا، ليس القسوة القصوى الوحيدة التي تطوي أعمار بعض الناس الفارّين من جحيم يابستهم. فثمة ما يُطاردهم في منافيهم أو في تشرّدهم، وثمّة ما يحوّل غربتهم إلى صراع مع المرارة والأوهام والانتظار والكوابيس المثيرة مصائر المتروكين في الأوطان. تلك التي تبدو بعد تركها والتحديق بها من بعيد كأنها تغرق بأكملها كما غرق «ناجون» منها مقابل شواطئها، أو كأنها تقترب ببطء من ثقب أسود هائل لا إفلات لها من جاذبيته العدمية.
والموت إن نزل بمشرّدين جدد أو حديثي اللجوء أو الغربة باغتت قسوته الأحياء في بحثهم عن حيّز لقبر، فصار المدفن الثابتَ الوحيد في حياتهم الصاخبة بالقلق والأسئلة والترحال، وصارت مشاريع الاستقرار أو العودة يوماً ترتبط تفاصيلها بمصير القبر وموقعه ومآل ساكنه النهائي.
وإذا كانت الاعتبارات المُساقة والتفكير بالموت والتعامل مع لوجستياته والبحث عن مراقد للموتى في الأرض أو في عمق البحر هي اعتبارات الأحياء في نكباتهم المتتالية، فإن الموت نفسه بات غير معزول، في ما يتخطّى الحروب وأسلحتها ووضاعة المسؤولين «المحليّين»، عمّا تفضي إليه السياسات وأصحابها في رقع كثيرة – قريبة وبعيدة – من العالم. فهذه، اقتصادية كانت أو إدارية، لا تكفّ عن تشييد الجدران والعوائق بين البشر مقابل هدمها أمام السلع وكلّ ما يمكن استهلاكه واستغلاله وجني الأرباح منه. والموت بهذا المعنى ليس بعيداً عن تداعياتها وعمّا تُحدثه من اختلالات وفروقات اجتماعية وعن كوارث بيئية، يأتي الفساد الموضعي ليفاقم أضرارها ويحوّله إلى شرور مطلقة لا «نجاة» سوى في محاولات الهروب من أتونها. وإن أضيفت إلى ذلك الحروب والنزاعات الكبرى صار مركب مثقوب أو سَير عبر الجبال والغابات أبرز ما يمكن لبؤساء ومُنتهَكين فعله أو محاولته…
قديماً، كان لمقابر كثيرة تسميات تحمل شاعرية ما أو رمزية تغلّف سرّ الموت وهالته. «مقابر الغرباء» كانت واحدة من تلك التسميات إذ تشير إلى موتى غرباء عن أرض موتهم، دُفِنوا فيها لعبور سبيل أو لمهمّة اختاروها وتنقلّوا لأجلها إلى حيث طواهم الردى على غفلة من زمنهم. وكانت تُشير أيضاً إلى مجهولين رُجّح أنهم من خارج الجغرافيا المحيطة بالمقبرة ولا مطالبة من أحد بهم أو تعرّف على رفاتهم. وكان أحياء «غرباء» بدورهم يقيمون في أطراف المقابر هذه، ينظفّون شواهدها ويسقون ما قد ينبت حولها، ويعتاشون من أشغال متفرّقة أو من أعطيات وحسنات تجعلهم حُماة القبور وساكنيها.
لكن شاعرية التسمية والرمزيّة المغلّفة سرّ الموت لم تكن مرّة أمينة إن قورنت بالمُسمّى. كانت إسقاطاً يُشير إلى اختلاف أو مسافة عن المقيمين أكانوا موتى أو أحياء. وهي الآن باتت رديفة لأكثر ما هو ضائع أو حائم أو ثقيل فوق موتى التيه والغرق والنفي.
مقابر الغرباء صارت مدافن عشوائية في البحر والبرّ، وعلى شاشاتنا وداخل عيوننا. والغرابة أو الغربة لم تعد في أصل الموتى بالنسبة إلى مكمن ثراهم ولا هي في حياتهم رعايةً لشواهد القبور وبلاطها وورودها. صارت في كونهم طُردوا من جميع الأمكنة، وفي كونهم عُنّفوا في حياتهم ليأتي مماتُهم تتويجاً للمظالم والغربة، ولو خفّفت منه أحياناً محبةُ ووفاءُ غرباء آخرين.
للغرباء ومقابرهم في أصقاع الأرض وبحارها السلام…
Sorry Comments are closed