لا نعلم ما إذا كانت إسرائيل ستقصف مطار دمشق أثناء كتابة هذه السطور؛ مطار حلب خرج من الخدمة بفعل قصف مماثل، ومطار دمشق نفسه خرج ثم عاد إلى الخدمة. على أية حال، ما تقصفه إسرائيل في الأراضي السورية يتعدى المطارين إلى حيثما توجد مواقع إيرانية، أو شحنات أسلحة، ترى تل أبيب أنها خطر على أمنها. جدير بالذكر أن تل أبيب لا تهوى اختراق ما يُسمى شكلياً “السيادة”، ولا تهدف إلى تقديم مادة للنكات المتعلقة بذلك، أو بكليشيه “الاحتفاظ بحق الرد” التي يواظب على تردادها مسؤولو الأسد.
كرر مسؤولون إسرائيليون طيلة سنوات أن لا مشكلة لهم مع الأسد، باستثناء علاقته بإيران، وحتى هذه العلاقة مقبولة إذا تم ضبط خط الإمدادات المارّ من سوريا في اتجاه جنوب لبنان. يبدو أن تل أبيب كانت، قبل تدخّل إيران وميليشياتها في سوريا، مطمئنة إلى وجود خط الإمدادات تحت إشراف الأسد، ربما لسهولة اختراق منظومته مخابراتياً، ولم تضطر آنذاك إلى قصف أهداف داخل سوريا إلا نادراً.
لكن ينبغي أن يؤخذ في الحسبان أيضاً تمدد إيران في العقد الأخير، حيث راح مسؤولوها يتباهون علناً بسيطرتهم على أربعة بلدان عربية، منها لبنان وسوريا. أي أن الأهداف الإيرانية، وما يتصل بها من توريدات أسلحة إلى لبنان، تغيرت عمّا كانت عليه من قبل، وتريد طهران بناءً عليها تغيير قواعد الاشتباك مع تل أبيب، بينما تريد الأخيرة الحفاظ على القواعد السابقة التي كان الأسد الأب ثم الابن شريكين فيها.
لسان حال إسرائيل، وهو ما لا تستطيع قوله صراحة، أنها تفضّل الممانعة بطريقة الأسد على الممانعة الإيرانية، وتريد خروج الأسد من مصيدة الثانية، وعندما نستخدم كلمة “مصيدة” فهي تتضمن أيضاً توقه إلى الخروج منها. أي أن تل أبيب، بخلاف تعميمنا السائد عن “حلف الممانعة”، تميّز بين أعضاء هذا الحلف. هي بالأحرى ترى جيداً التمايزات، والتطورات التي طرأت وأدت إلى انقلاب في التوازن القديم وموازين القوى ضمن الحلف.
منذ “أيلول الأسود” 1970 قدّم حافظ الأسد، بخلاف رفاقه في السلطة وقتها، موقفاً يتفق مع تل أبيب، فهو كان ضد توجه صلاح جديد والأتاسي إلى دعم منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة ملك الأردن، وكان من أول إجراءاته بعد انقلابه إعادة قطعات عسكرية اضطر إلى إرسالها قريباً من الحدود الأردنية عندما كان وزيراً للدفاع. بعد ست سنوات ستدخل قوات الأسد إلى لبنان، بموافقة إسرائيلية وأمريكية، لتتولى خلال سنوات تصفية “الكفاح الفلسطيني المسلح”.
بصرف النظر عن أخطاء وخطايا الأخير فقد كان ضد النموذج الذي يريده الأسد، وهو ضبط الحدود مع الإسرائيليين، والإمساك بها وتالياً بأوراق التفاوض، إما من خلال جيش نظامي، أو بواسطة ميليشيات تابعة ومسيطَر عليها جيداً. هذا هو أيضاً النموذج الذي تريده إسرائيل، والتي تفضّل الاشتباك “إذا كان لا بد منه” مع الجيوش النظامية والأنظمة.
لم يكن حافظ الأسد يريد الحرب ولا السلام، هذا هو فحوى خطاب الممانعة. في أقوى حالاته كان يريد جبهة ممسوكة جيداً، يتفاوض بها في قضايا بعيدة عن الصراع المفترض مع إسرائيل، قضايا مثل الحصول على نفوذ إقليمي في لبنان، أو توريث السلطة بلا عقبات في سوريا. كان الإمساك بجبهة الجنوب، حتى الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، أفضل سند لخطاب الممانعة الأسدي، لأنها تغطّي على جبهة الجولان المغلقة إلى الأبد.
تشاء الأقدار أن يموت الأسد الأب مع الانسحاب الإسرائيلي، فلا يخلّف لوريثه سوى التركة اللفظية للممانعة، وليظهر خطاب الممانعة متهافتاً ومثيراً للسخرية أكثر من أي وقت مضى. بدءاً من عام 2011، سيكون الخطاب ذاته حقيقياً وأوضح مما سبق، عندما يصف الأسد الثائرين عليه بعملاء إسرائيل، أي أن السوريين هم إسرائيله.
في العقد الأخير انتقلت جبهة الجنوب، بوصفها منصة لتبادل الرسائل، إلى سوريا، وتغيّر معها المرسل والمرسَل إليه. باستثناءات قليلة جداً، كانت إسرائيل هي المرسل، والوجهة هي طهران. الطرفان كأنهما متفقان على اقتصار المواجهة بينهما على سوريا، حتى أن الجبهة القديمة السهلة صارت تُستخدم للتخويف والردع، واستقالت نهائياً من مهمة تبادل الرسائل. وفق التراتبية الجديدة، قد تُستخدم غزة إذا اقتضت الظروف إرسال رسائل أقوى.
ما حدث لا يُختزل بتبديل للمواقع والأدوار، فلعبة الممانعة القديمة كانت شديدة البساطة بالمقارنة مع الصراع المستجد. هنا سيكون من الخطأ تجاهل الفرق بين الأسد وحكام طهران، حتى مع تجاهل المبالغات الفاحشة للأخيرين من قبيل قدرتهم على تدمير إسرائيل في دقائق قليلة. القوة الإيرانية أدنى بكثير من هذه المبالغة الموروثة من الفلكلور اللفظي للممانعة، وهي في الوقت نفسه قوة إقليمية صاعدة، ومستعدة للدفاع بضراوة عن مسيرتها هذه.
بعبارة أخرى، الصراع الإسرائيلي-الإيراني مرشح للاستمرار بشكل أو بآخر، ولا علاقة لهذا بالغيرة الإيرانية المزعومة على فلسطين. هو صراع بين قوتين إقليميتين، تستخدم فيه إيران العدة الإعلامية المعهودة للممانعة، وتستثمرها على جانبين، جانب من الجمهور العربي الذي يطرب حتى الآن لتلك الشعارات، وجانب من الجمهور الإيراني المتأثر بثقافة محلية عنصرية ومعادية تقليدياً لليهود. الممانعة الإيرانية هي بمثابة اسم رمزي لطموح حقيقي وجاد، وليست لعبة متواضعة الأهداف كما كان حال ممانعة الأسد.
في ميزان الصراع الحالي، الأسد عالق في مصيدة الممانعة الإيرانية، ودوره مقتصر على دفع الثمن، لأنه مدين أولاً لطهران ببقائه، رغم أن إسرائيل لم تدعم للحظة فكرة إسقاطه. وهو مجبر على دفع الثمن الباهظ بالنسبة له، والذي قد يُحتسب مجرد خسارة جانبية لطهران، ومثال ذلك قصفُ مطارَي دمشق وحلب الذي إن أودى بشحنات أسلحة إيرانية فهي خسارة محتملة ضمن المشروع الإيراني ككل، بينما هي خسارة باهظة لاقتصاد الأسد المتهالك، وهي فوق ذلك خسارة تحت عنوان الممانعة الذي صار فضفاضاً عليه. قد لا يكون من حسن طالع الأسد الوقوعُ بين حليف طامح و”جار” حازم، رغم أنه لا يكنّ له سوى الود.
عذراً التعليقات مغلقة