أطلق وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قبل يومين، تصريحات “لافتة” هي الأولى من نوعها بخصوص علاقة بلاده مع نظام الأسد، الأمر الذي أثار جدلا وتساؤلات عن الأسباب التي تقف وراء هذه “النبرة الجديدة”، وما إذا كانت ستفرض مشهدا مغايرا للعلاقة بين أنقرة ودمشق، خلافا لما كانت عليها السنوات الماضية.
وقال جاويش أوغلو، حسب ما نقلت وكالة “الأناضول”، في رده على سؤال بشأن العملية العسكرية التركية المحتملة في شمالي سوريا، وموقف كل من واشنطن وموسكو منها: “الولايات المتحدة وروسيا لم تفيا بوعودهما بإخراج الإرهابيين من المنطقة، وهذا يدل على عدم إخلاصهما في محاربة الإرهاب”.
وذكر الوزير التركي أن بلاده أجرت سابقا محادثات مع إيران بخصوص إخراج الإرهابيين من المنطقة، مضيفا: “سنقدم كل أنواع الدعم السياسي لعمل النظام (السوري) في هذا الصدد”.
وتابع: “من الحق الطبيعي للنظام (السوري) أن يزيل التنظيم الإرهابي من أراضيه، لكن ليس من الصواب أن يرى المعارضة المعتدلة إرهابيين”.
وهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها هكذا نوع من التصريحات السياسية من جانب أنقرة حيال العلاقة مع نظام الأسد، حيث اقترح الإعلان في السابق عن وجود اتصالات أمنية واستخباراتية فقط، بعيدا عن أي تواصل سياسي أو نية لفتح قنوات اتصال.
ولا تعترف تركيا بنظام الأسد منذ سنوات طويلة كجهة شرعية تمسك زمام أمور الشعب السوري، وتتمسك حتى الآن بهذا الموقف، بحسب ما أشارت إليه تصريحات مسؤوليها، على رأسهم الرئيس، رجب طيب إردوغان، خلال الفترة الأخيرة.
وفي المقابل، يصف نظام الأسد الوجود العسكري التركي في البلاد بـ”الاحتلال”، وسبق أن طالبت وزارة خارجيته أنقرة بالخروج “كونها لم تدخل بناء على طلب الحكومة السورية”، كما هو الحال بالنسبة لروسيا وإيران.
وتعتبر تركيا إحدى الدول الفاعلة في الملف السوري، سياسيا من خلال مسار “أستانة”، وآخر يتعلق بـ”سوتشي”، كما أنها تستضيف أكثر من 4 ملايين لاجئ سوري.
أما عسكريا فيظهر الدور الفاعل جليا، استنادا إلى الواقع الميداني المفروض من قبل قواتها والفصائل السورية التي تدعمها على طول الحدود الشمالية لسوريا.
“سياقات ولا مصالح”
وترتبط تصريحات جاويش أوغلو بثلاثة سياقات زمنية خاصة بسوريا، الأول أنها تأتي بعد أسبوع من القمة الثلاثية في طهران، والتي جمعت رؤساء تركيا وروسيا وإيران رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين وإبراهيم رئيسي.
أما السياق الثاني فقد جاءت عقب إبداء طهران نيتها الوساطة بين أنقرة ودمشق، في مسعى لإبعاد شبح العملية العسكرية التي تهدد بتنفيذها الأولى في شمال البلاد.
وفي حين يتعلق السياق الزمني الثالث بالتطورات المتعلقة بالعملية التركية المحتملة على الأرض، تتجه الأنظار إلى قمة “سوتشي” التي ستجمع إردوغان وبوتين في الخامس من أغسطس المقبل، على أن تتناول سلسلة من القضايا المشتركة، في مقدمتها الملف السوري.
وأثار “الدعم السياسي” لنظام الأسد من أجل “إخراج الإرهابيين”، كما تحدث الوزير التركي حالة من الجدل الواسعة بين أوساط السوريين المعارضين للأسد، معتقدين أن الأمر يعتبر “بداية لإعادة تطبيع العلاقات”.
لكن الباحث التركي ومدير “معهد إسطنبول للفكر”، باكير أتاجان يرى أن حديث جاويش أوغلو يأتي ردا على الادعاءات التي صدرت، خلال الأيام الماضية، بأن أنقرة تدعم “تقسيم سوريا”، وأن “لها مصالح وأطماع داخل الأراضي السورية”، لذلك هي بحاجة للعملية العسكرية الجديدة.
ويضيف أتاجان لموقع “الحرة”: “القصد من التصريح أن تركيا تدعم عدم تقسيم سوريا وأيضا الحفاظ على وحدة الشعب. لم يقصد جاويش أوغلو بقاء نظام الأسد. الدعم يختلف عن التعاون وإعادة العلاقات”.
وقبل يومين كانت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية قد نشرت تقريرا ناقشت فيه خطة تركيا في سوريا، بالتزامن مع التهديدات بعملية عسكرية بعمق 30 كيلومترا على طول الحدود الشمالية للبلاد.
وأوضح التقرير أن الوضع الحالي في شمال غربي سوريا، يعكس دور تركيا “الفعّال” في رسم مستقبل المنطقة، بعدما نفذت عمليات عسكرية سابقة لدفع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بعيدا عن الحدود.
كما سلّط الضوء على الأدوار التي تلعبها المؤسسات التركية في شمال سوريا، من إدارة خدمات وصحة وتعليم وغير ذلك، فيما نقل عن مسؤول تركي لم يسمه “نفيه الشديد” أن بلاده تسعى لتغيير النسيج الاجتماعي لسوريا، مؤكدا أن “العديد من الأصدقاء العرب والغربيين لم يفهموا التوجه التركي”.
“قطع طريق”
وعلى مدى الأشهر الماضية كانت الكثير من وسائل الإعلام التركية، من بينها المقربة من الحكومة قد تطرقت إلى طبيعة العلاقة الحالية بين تركيا ونظام الأسد، وعما إذا كان هناك أي احتمالية لعودة العلاقات، كما حصل بين أنقرة ودول أخرى، مثل الرياض وأبو ظبي.
في أبريل الماضي تحدثت صحيفة “حرييت” عن “مناقشات” حكومية تجري للشروع في حوار مع حكومة نظام الأسد، بشأن 3 موضوعات “مهمة”.
وهذه المعلومات لم يصدر حولها أي تعليق رسمي من أنقرة أو دمشق، وهما الطرفان اللذان يقفان على طرفي نقيض منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011.
ونقلت الصحيفة المقربة من الحكومة، عن مصادر لم تسمها، حينها أن “الحكومة التركية ترى أن دور أنقرة في الأشهر الأخيرة، وخاصة تجاه حل الحرب الأوكرانية وتركيز روسيا هناك قد يكون توقيتا جيدا لحل المشكلة السورية”.
وتشير المصادر إلى أن تركيا “في جميع اتصالاتها مع الإدارة السورية” تؤكد على 3 أشياء لا غنى عنها، وهي “الحفاظ على البنية الأحادية (وحدة الوطن)، ضمان أمن اللاجئين العائدين”، إضافة إلى “نشاط حزب العمال الكردستاني”.
وهذه المعلومات سبق أن تطرقت إليها وسائل إعلام تركية، خلال الأشهر الماضية، لكن ضمن سياق “التواصل الاستخباراتي” بين سوريا وتركيا الذي لم ينقطع، وأكده المسؤولون مرارا.
الباحث السياسي التركي، طه عودة أوغلو يقول إن اللافت في تصريح جاويش أوغلو الأخير أنه جاء بعد أيام أيام قليلة من القمة الثلاثية لرؤساء الدول الضامنة لمسار (أستانة) حول سوريا (روسيا وتركيا وإيران).
وفي هذه القمة بدا لافتا على هامشها الزيارة التي أجراها وزير خارجية نظام الأسد، فيصل المقداد، ولقائه نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان.
ويضيف الباحث لموقع “الحرة”: “زيارة المقداد طرحت تساؤلات حول أسباب الموقف التركي الجديد”.
ويمكن القول إن “استياء أنقرة من مماطلة واشنطن وموسكو من دعمها في عمليتها العسكرية في سوريا هو أحد الأسباب التي دفعها للإدلاء بهذه التصريحات الجديدة، التي تأتي مغايرة للتصريحات التركية السابقة”.
وفي السابق كان الحديث ينحصر في “التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين واستبعاد تطبيع العلاقات مع النظام (سياسيا)”.
ويتابع عودة أوغلو: “يبدو أن أنقرة تريد قطع الطريق عن أي محاولات روسية للتقارب بين نظام الأسد وقسد، وهذه بالمفهوم التركي ضربة لمحاولات قسد للالتفاف على الخطوات التي تقوم بها تركيا لتوجيه ضربة للتنظيم الإرهابي”، حسب تعبيره.
“نبرة مودة”
في غضون ذلك يعتبر الباحث المختص بالشأن التركي والعلاقات الدولية، محمود علوش أن تصريحات وزير خارجية تركيا “تكتسب أهمية كبيرة، كونها المرة الأولى التي تتحدث بها أنقرة صراحة بنبرة مودّة تجاه النظام السوري”.
ويعكس هذا التحول أمرين رئيسيين، حسب ما يقول الباحث لموقع “الحرة”.
ويضيف: “الأول هو الذي طرأ على موقف تركيا في الصراع السوري، نتيجة لتغيّر أولوياتها من إسقاط الأسد إلى التركيز على مخاطر المشروع الانفصالي الكردي من جهة، ونتيجة كذلك للتحوّلات التي طرأت على طبيعة الصراع في السنوات الست الأخيرة والانتصار العسكري الذي حققه الأسد وحلفاؤه”.
وهذا التحول بدأ عمليا بالظهور منذ دخول تركيا في شراكة مع روسيا وإيران في 2017 ضمن منصة أستانة.
ويوضح علوش أن الشراكة “فرضت على أنقرة تبني نهج جديد يقوم على التعاون التنافسي مع الفاعلين الرئيسيين في المشهد السوري وهما موسكو وطهران”.
“روسيا وإيران تسعيان لاستغلال حاجات تركيا الأمنية في سوريا، من أجل دفعها للانخراط في حوار سياسي مع دمشق”.
ويتابع الباحث أن التحول الثاني الذي يمكن قرائته من تصريح جاويش أوغلو يأتي على صعيد الموقف التركي في مسألة تل رفعت ومنبج.
وتمثل السيطرة على منبج وتل رفعت في ريف حلب “أولوية تركية في الوقت الراهن”.
ويشير علوش إلى أن “الأتراك يلوحون منذ فترة بعملية عسكرية جديدة، لكنّهم واجهوا معارضة روسية وإيرانية شديدة. في نهاية المطاف، لا يوجد خيار آخر سوى إبرام تسوية إذا ما أرادت الأطراف الثلاثة الحفاظ على الشراكة الثلاثية”.
“نهج جديد”
وقبل “الوساطة” التي عرضتها إيران، مؤخرا كانت روسيا قد أعلنت عن ذات الشيء في عام 2019، إلا أن العلاقات بين أنقرة ودمشق بقيت على حالها دون أي تقدم.
وعلى هامش اجتماعات “أستانة” الأخيرة دعا كبير مستشاري وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، علي أصغر خاجي، إلى “بذل جهود أكبر من أجل تمكين الجيش السوري من الانتشار على حدود تركيا، لمعالجة المخاوف الأمنية لدى القيادة التركية، في إطار اتفاقية أضنة المبرمة بين البلدين”.
وأشار خاجي في تصريحات لوكالة “سبوتنيك” الروسية إلى “ضرورة اعتماد إطار اتفاقية أضنة الموقعة بين سوريا وتركيا، والتي تلزم دمشق بعدم السماح بأي نشاط ينطلق من أراضيها بهدف الإضرار بأمن واستقرار تركيا”.
ويوضح الباحث علوش أن “أحد الخيارات التي يطرحها الروس والإيرانيون على تركيا هو دخول نظام الأسد إلى منبج وتل رفعت وإخراج المقاتلين الأكراد منهما”.
و”يُمكن أن يكون ذلك حلا وسطا لكل الأطراف، لكنّه سيكون مكسبا كبيرا للنظام”.
واعتبر الباحث أن “أنقرة يبدو أنها تميل إلى مثل هذا الخيار، وأنها تمضي قدما في نهج جديد سيؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة العلاقات مع دمشق، لكنّ ليس في المستقبل المنظور”.
ومع ذلك فإن “الموافقة التركية المحتملة على دخول النظام السوري إلى تل رفعت ومنبج وتمهيد الأرضية لإعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى سوريا. كلها خطوات من شأنها أن تُساعد في تعبيد الطريق في هذا الاتجاه”، حسب حديث الباحث.
Sorry Comments are closed