بعد مرور خمسة أشهر على اندلاعها، بدأت تتضح أكثر تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد طاولت العالم كله، نتيجة إسهامها في رفع أسعار الطاقة والغذاء، والتي تسبّبت بأزمة تضخّم أدت بدورها إلى أزمة ديون مع ارتفاع معدلات الفائدة وعجز دول عديدة عن السداد. ورغم أن لدى القارّة الأوروبية إمكانات أكبر على الصمود من دول فقيرة عديدة (سريلانكا مثلا) إلا أن فاتورة الحرب قد تصبح قريبا غير محتملة، ليس فقط اقتصاديا، وإنما سياسيا واجتماعيا أيضا.
اقتصاديا، تُنذر أرقام التضخّم التي وصلت إلى نحو 10% تقريبا (ارتفاعا من 2,2% العام الماضي) بدخول أوروبا في حالة ركود اقتصادي، وهي لمّا تتعاف بعد من آثار أزمة وباء كورونا، هذا يعني انخفاض نسب النمو وتزايد معدلات البطالة، مترافقا مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء (ركود تضخّمي)، ما يهدّد بدفع جزء معتبر من المجتمعات الأوروبية إلى حافّة الفقر والجوع. ولكن هذا لن يكون هم الحكومات الأوروبية الوحيد هذا العام، إذ تعيش دول أوروبية عديدة تحت وطأة احتمال انقطاع إمدادات الغاز الروسية كليا عنها كرد فعل على العقوبات المفروضة على موسكو، وعلى دعم أوكرانيا عسكريا واقتصاديا. شركة “غاز بروم” خفضت بالفعل ضخّ الغاز إلى أوروبا بنسبة 20%، وهي توقف، بين الفينة والأخرى، ضخّ الغاز في خط نورد ستريم1 بحجة إجراء صيانة، والهدف على ما يبدو منع الدول الأوروبية من تخزين كميات كافية من الغاز استعدادا للشتاء. ورغم تدفق الغاز من الولايات المتحدة ودول أخرى، لن تستطيع أوروبا قبل عامين على الأقل إيجاد بديل فعلي للغاز الروسي، ما يؤدّي إلى خفض تنافسية الصناعات الأوروبية نتيجة ارتفاع كلف الإنتاج، مقارنة بالصين والهند اللتين تحصلان على حسوماتٍ كبيرةٍ على الطاقة الروسية.
ويتوقع أن يلعب الغاز دورا مهما في تقويض الوحدة التي أبداها الأوروبيون في مواجهة روسيا، ويتبلور في أوروبا حاليا معسكران: الأول يريد التفاهم مع روسيا والاستجابة لبعض احتياجاتها الأمنية في أوكرانيا، وتمثل هذا الاتجاه المجر، وإلى حد ما ألمانيا وإيطاليا وحتى فرنسا. أما المعسكر الآخر فيريد قتال روسيا حتى آخر قطرة دم أوكرانية، وتمثله بولندا ودول البلطيق، دع جانبا بريطانيا. لا يسري هذا الانقسام فقط بين دول أوروبا، بل ينتقل إلى دواخلها. ومع ضيق صدر المواطن الأوروبي بتداعيات الأزمة الأوكرانية في ظروف معيشته، تزداد قوى اليمين الأوروبي المتعاطفة عموما مع روسيا قوة، وتتفاعل أزمة اللجوء الأوكراني، حتى في أكثر دول أوروبا عداء لروسيا (بولندا مثلا). ويتوقع بحلول الشتاء أن تتجه دول أوروبية عديدة، عملا بتوصيات المفوضية الأوروبية، إلى ترشيد استهلاك الغاز بنسب قد تصل الى 15%، ما يعني تقنين وقود التدفئة شتاء وتأثر ملايين العوائل (20% من سكان أوروبا فوق 65 عاما). وقد رفضت إسبانيا والبرتغال هذه التوصية لارتفاع تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، سقطت حكومات بلغاريا وسلوفينيا وإستونيا وإيطاليا وغادر الحكم رئيس وزراء بريطانيا، وإن لم تلعب حرب أوكرانيا دورا في إطاحته، ويتوقع بحلول الشتاء سقوط حكومات عديدة أخرى.
تقول هذه المؤشّرات إن أوروبا تخسر كثيرا على المدى القصير بسبب حرب الغاز، لكن على المدى الأبعد ستكون روسيا الخاسر الأكبر، ذلك أن 85% من كل إنتاجها من الغاز يذهب باتجاه أوروبا (160 مليار متر مكعب سنويا)، في حين أن أوروبا تستورد 40% فقط من احتياجاتها من الغاز من روسيا، هذا يعني أن اعتماد روسيا على أوروبا يساوي ضعف اعتماد أوروبا على روسيا. وفي حين أن أوروبا سوف تتمكّن خلال أعوام قليلة من توفير بدائل للغاز الروسي، لن تستطيع روسيا التعويض عن السوق الأوروبية خلال الفترة نفسها. إذ تبلغ القدرة التصديرية لخط الغاز الروسي الى الصين نحو 10% فقط من إنتاج روسيا، وقدرتها على تسييل الغاز تصل إلى 10% أيضًا، هذا يعني أن روسيا سوف تخسر 80% من حصتها السوقية إلى الأبد لصالح دول مثل قطر وأستراليا والولايات المتحدة، وبالتالي انتهاء دورها كقوى عظمى طاقويا.
عذراً التعليقات مغلقة